Wednesday, February 29, 2012

"الصرخة" فيلم روائي قصير تجربة فنية لافتة ومخرج يستحق الاهتمام

بقلم: خيرية البشلاوي

التقصير في حق المبدعين السينمائيين الشبان خطيئة علي الناقد أن يعترف بها و يكفر عنها.
بداية..أعترف بهذا القصور في حق مخرج يستحق إلقاء الضوء علي أعماله، إنه المخرج أحمد حسونة الذي أتصور أنه لم يأخذ حقه من الأحتفاء النقدي رغم أنه أفضل من كثيرين يملأون الدنيا ضجيجا علي الرغم من انتاجهم الردئ و أفلامهم الفاشلة
أحمد حسونة مخرج أفلام روائية قصيرة وتسجيلية وقد رأيت مؤخراً فيلمه "الصرخة" الذي عرضه مركز الإبداع في الأوبرا ضمن برنامج جمعية نقاد السينما المصريين. وأدار الندوة بعد انتهاء العرض في حضور المخرج. الناقد محسن ويفي.
وقد لاحظت من خلال تعليقات الجمهور اختلاف مفاتيح الدخول إلي العالم الغامض والغريب الذي نجح المخرج في جذبنا إليه.
وعلي أي حال يتميز الفيلم بأجوائه ولغته السينمائية وتشكيلاته التي تنطوي علي مضامين تعكس معاني تبدو غامضة وحالات شعورية ونفسية مركبة.
بردية فرعونية
يضعنا الفيلم أمام تفسير أو محاولة ذاتية للكشف عن أسرار بردية فرعونية يحتفظ بها عالم آثار داخل منزله الريفي المعزول حيث يقيم مع زوجته -حسناء- وهي نفسها ابنة عالم آثار رحل منذ سنوات.
وتتضمن البردية معلومات عن طقوس سرية لو تمت ممارستها يمكن أن يصير الإنسان سيد أقداره ويتحرر من قيوده ويمتلك مصيره ويصبح هو نفسه الوجود كله "!!"
وهذا ما سوف يحاول تجريبه عالم الآثار "قدري" علي الشاب الغريب الذي يتم اصطياده واستضافته ثم تنويمه وإخضاعه لشعائر وطقوس تسلبه إرادته.. ويبدو أن هناك صفقة بين الزوج وبين الزوجة لو نجحت التجربة. ففي هذا الحالة يوقع لها علي عقد بيع المنزل الذي كان قد استولي عليه.
الغموض السلبي
الموضوع الذي انجذب إليه المخرج يتسم بالغموض فعلاً. والتساؤلات حوله قد لا تجد إجابة والتفسير الذي اجتهدت شخصياً في تقديمه هنا قد يبدو للبعض غير مقبول. ولكن الفيلم يفتح الباب لتأويلات كثيرة وفي النهاية أجده تجربة لافتة وإن كانت أقل جاذبية بالنسبة للمتفرج عن فيلمه "مربع داير" وهو أيضاً روائي قصير. وقد أتناوله في مناسبة أخري.
بطل الفيلم مؤلف روائي -وحيد مراد- انفصل عن زوجته وقرر أن يترك منزل الزوجية ويخرج في رحلة إلي المجهول.. وهو بصدد تأليف رواية عن "شاب كان يشعر بذنب كبير إزاء والده الذي استولي علي أمواله وتركه علي حافة الإفلاس. وكان يحاول أن يجد تبريرا لما فعله حتي يخرج من الكوابيس التي تحيل ليله إلي جحيم" والمؤلف لم يكمل الرواية علي ما يبدو فهو إذن شاب مأزوم. ويعيش هو نفسه جحيمه الخاص. وهو أيضاً شخصية ليست عادية قذفت بها المقادير إلي بيت عالم الآثار الذي يعاني بدوره من سجنه الخاص وكذلك الزوجة حسناء التي تستقبل الشاب وكأنها تتوقع قدومه. فكما نفهم من السياق السردي أنها اعتادت استقبال عابري الطريق بعد أن تتعطل بهم السيارة. وهي تعرف امكانية إصلاحها وكأن الأمر مدبر. وفيما يبدو أن التجربة التي خضع لها -وحيد- في هذا البيت تعرض لها غيره ولم تنجح. ففهم ذلك من حوار "حسناء" مع زوجها.
الشخصيات الثلاث الرئيسية في الفيلم شخصيات تبحث عن خلاص. وكلها شخصيات "مُبدعة" بشكل أو آخر. وأحدهما عالم الآثار محبوس في مقعده بعد إصابته في رحلة البحث عن "كتاب النجوم" الفرعوني وزوجته التي تزوجته قسرا. وحيدة ومحبوسة بدورها ومسلوبة الإرادة في علاقة مشوهة مع زوج تكرهه. يمتهن إنسانيته!
هؤلاء الثلاثة داخل هذا المنزل المعزول ينسجون عالما غريبا من الأوهام والغموض والشعائر والسلوك الملغز. فضلاً عن مظاهر تنبيء بأشياء غامضة.. وحقيقة الأمر أن الفيلم ينتهي دون أن يتمكن المتلقي من الإمساك بتفسير محدد أو فهم يبدد الغموض. فالفيلم يستعير خيوطا من نوعية فيلم الرعب. ومن أفلام الجريمة. ومن الخيال العلمي الغارق في الشطط. ومن الفلسفة المادية عن قدرة الإنسان علي التخلص من الآلهة والإمساك بمصيره وأشياء أخري.
وعلي الرغم من هذا الغموض المربك الذي يضع عراقيل أمام عملية التلقي إلا أن التجربة شيقة وتستحق الالتفات. وبالذات إلي اللغة السينمائية التي عالج بها المخرج حبكة الفيلم.
كذلك يلفت النظر أداء الممثلة هبة عبدالغني التي تبدو موهوبة وقادرة علي توظيف لغة الجسد وملامح الوجه وحركة الأصابع أثناء التدخين وطريقة صعودها السلالم وهو أداء يؤكد أن وراء هذه الممثلة المبتدئة مخرج صاحب خيال وقدرة علي استخدام أدواته.. كذلك أداء الممثل بطرس غالي المقنع.. خلق المخرج مساحات درامية مشوقة وقام بتوظيف جيد ل"السخرية الدرامية".
عند التمهيد إلي ما سوف ينتظر هذا الغريب وهو يتغزل في المشهد الطبيعي الذي تطل عليه الحجرة التي سيقيم فيها. وفي البردية المعلقة علي أحد جدرانها وكلها مؤشرات لمصير سييء لا يتوقعه
.
فالمخرج يتميز بقدرة علي خلق عالم خاص واستخدام مبدع لعنصر الإضاءة وهو في ذلك يستعيد تكنيك الفيلم الأسود "Film noir" وهو نوعية من الأفلام شاعت في الأربعينيات والخمسينيات وتعتمد علي لغة الإضاءة والاستخدام الموظف دراميا لمناطق الضوء والعتمة ثم التنويعات المرتبطة بذلك بما يتسق مع موضوع الفيلم ومع التأثير المطلوب منه.
واللافت أن للمخرج غراماً بهذه النوعية من الموضوعات "السوداء" تجدها في فيلم "مربع داير" وهو من أفلام الجريمة. ويتسم بالتشويق وبالإثارة واكتشاف مناطق سيكولوجية غير مألوفة.

No comments:

Post a Comment