Monday, February 27, 2012

أنا و الأجندة..و اللي بالي بالك


يري البعض أن هناك فارقا كبيرا بين 25 يناير 2011 وذكراه الأولي في 2012 . ولكن مشاهدتك الآن لفيلم (أنا والأجندة) من إنتاج إبريل 2011 إخراج نيفين شلبي ستؤكد لك أن الفارق ليس كبيرا تماما كما يتأكد لك ذلك عندما تري نفس الوجوه التي حرضت ضد الثورة واتهمت صناعها بحمل الأجندات هم الأكثر ظهورا علي ساحة الإعلام المرئي، أو الأكثر كتابة في إعلام الصحافة، وهم يواصلون نشر رسالتهم المسمومة بعد فاصل من المدح والنفاق الكاذب لثورة يناير. فتقريبا نفس خطاب الأجندات الذي كان يوجهه الإعلام الرسمي وحكومة ما قبل الثورة هو نفس خطاب اليوم، ونفس الاتهامات التي كان يكيلها مبارك وتابعه صفوت الشريف لرموز الثورة وللحركات التي دعت إليها مازالت توجه اليوم، ، كل هذا مع أن الجميع يسبح بحمد الثورة ويزعم أنها كانت جميلة ورائعة في طلعتها الأولي قبل أن يندس فيها المندسون، وكأن كل الملائكة المخلصين الذين كانوا بها اختفوا ولم يبق سوي المندسين. تضع المخرجة الشابة نيفين شلبي عنوانا واضحا وصريحا ليتصدر فيلمها وليرشدها ويهديها وهي تشيد عملها المتميز: (أنا والأجندة) وكأنها في حالة تحد مع هذه الأجندة أو من يدعون بوجودها، وقد يري البعض أن تحقيق فيلم يعضد اتهام صناع الثورة بتنفيذ هذه الأجندات هو أمر في غاية السهولة، خاصة لو قدر لصانعته أن تكون في قلب أحداث الثورة منذ لحظاتها الأولي، وهو ما تكشف عنه لقطات الفيلم بوضوح، بل وصوت المخرجة وهو يأتي من وراء الكادر من موقع الأحداث خلف الكاميرا أحيانا. من قلب الثورة ولكن هذا التصور ليس صحيحا علي الإطلاق، فما أسهل أن ترد علي هذه الاتهامات بشحنة من الانفعال الزائد أوالأصوات العشوائية المنفلتة اوحتي الوجوه المنمقة الملفقة الزائفة فلا يتحقق أي تأثير، ولكن نيفين في رأيي تختار بفطرتها وخبرتها الفنية السليمة الطريق الصحيح للوصول للهدف، وفي سبيلها لهذا تحقق فيلما صعبا، قد يسهل تصنيفه كتسجيلي أو وثائقي طبقا لما هو شائع. لكن قد يراه البعض، وأنا منهم، أحد نتاجات الفيلم القصير الحديث الذي يتعذر تصنيفه، فهوشأنه شأن فنون ما بعد الحداثة يستفيد من العديد من الأشكال والأنواع الفنية لتحقيق رؤية ذاتية ووجهة نظر محددة اعتمادا علي مادة حقيقية ومنهج موضوعي في البحث والاختيار، فنيفين تمزج في بنائها الفيلمي بين المادة التسجيلية والمادة الأرشيفية والريبورتاج المباشر والأغنية المعبرة والرسوم واللوحات كنتاج طبيعي لثورة كانت ساحة لمختلف أنواع الفنون وأساليب الإبداع. ولكن الأهم من كل هذا أنك تعيش مع نيفين شلبي لحظات شديدة الأهمية والدلالة من عمر الوطن، وتنصت إلي شهادات هؤلاء المواطنين البسطاء الذي يحلو للبعض تصنيفهم بغير المسيسين علي أساس أن المسيسين من اتباع الشيطان، وأن السياسة لا يجب أن يمارسها إلا خدم النظام الفاسد في سبيل حمايته وتحقيق أغراضه الدنيئة. وهكذا تخاطب نيفين هذه العقول الرجعية المريضة، ومن يتبع خطابهم، بأصوات لا يمكن أن يعترضوا عليها لأنها لمواطنين عاديين جدا من الطبقة المتوسطة وما تحتها، هم بالتأكيد ليسوا المواطنين الذين تصفهم البيانات ونشرات الأخبار بالشرفاء ممن يخرجون للعباسية وغيرها من الميادين مذعورين من كل من ينادي بالحرية والكرامة، وكأن الحرية والكرامة أمران لا يعرفهما من يوصفون بالشرفاء الذين سئمنا من مناظرهم ومن هياجهم الجنوني، ومن أبوهم الحرامي وكنبتهم العفنة من طول رقادهم عليها ومن صمتهم الذي أطبق علي أنفاس الوطن وأخرسه سنوات وسنوات. لحظة عبقرية تمتزج شهادات ثوار نيفين بلقطات حية للمظاهرات والمواجهات بين المتظاهرين والأمن، وتأتي هذه المشاهد لتعكس جرأة حقيقية لمخرجة خرجت بكاميرتها لتصور في أصعب الأيام وأشدها حساسية، وهي تخترق بآلتها الذكية حدود الخوف لتنقض علي الصورة الحية المعبرة ولتلتقط الأصوات والكلمات الصادقة الحقيقية، في تلك اللحظة العبقرية من إحدي المواجهات الفارقة بين الثوار في البدايات الأولي وقد تجمعوا من كل صوب أمام فندق الشيراتون ليعبروا كوبري الجلاء وقد وقف في مواجهتم جنود الأمن المركزي المذعورين من هذا التدافع الرهيب ليهدئهم هؤلاء المتظاهرون السلميون الواعون " ما تخافوش" . من مادتها القوية الثرية تصيغ إيقاعها بإتقان وتتحكم في تأثير الصوت والصورة، وبعد أن يصل الناس إلي قمة الغليان والغضب وتتحول شكواهم إلي صياح وصراخ تصحبه موسيقي حماسية مؤثرة يأتي صوت مبارك البارد المستفز بإيقاعه القاتل وإحساسه الغليظ في خطاباته المتأخرة المتخلفة، ومن هنا يأتي الغليان من جديد كرد فعل طبيعي وتلقائي للحظة خانقة وقاتلة من رجل جاثم علي السلطة لا يدرك خطورة موقفه ولا يفكر إلا في الحفاظ علي سلطته وسلطانه. وبينما يردد مبارك في خطابه المكرر "إن مسئوليتي الأولي الآن هي استعادة أمن واستقرار الوطن"، يأتي صوت أحدهم معلقا في نفاد صبر: "لخص" .وعندما يقول " إنني لم اكن أنتوي الترشح لفترة أخري" تأتي صيحات الاستنكار لعباراته الجوفاء التي لم تعد تنطلي علي شعب أدرك هدفه وصمم علي اسقاط النظام الفاشل من رأسه، وهكذا فأنت تتابع من قلب التحرير خطاب رجل لا ينشغل إلا بذاته ولا يشعر بحال الناس الذين هم ليسوا في أي حاجة لأجندات تحركهم أكثر من هذا البرود القاتل والغباء الفاحش والاستهتار البالغ بمشاعرهم ومطالبهم. إملاءات أجنبية ولكنه يواصل في تبجح "ولكن الحرج كل الحرج أن أستمع لإملاءات أجنبية" لكن تتعالي صيحات الرفض والاحتجاج قبل أن يكمل جملته وبمجرد أن يشير إلي أنه سوف يعمل خلال الأشهر المتبقية.. لا أحد يريد أن يعرف ماذا سيعمل ولا ينشغل أحد بخطابه المستفز المكرر الساذج عن الأجندات، ولكن الكل رافض لفكرة بقائه من الأساس ومصمم علي إجباره علي التنحي . ومن صيحات وهتافات الاحتجاج والتنديد والإصرار علي رحيله تعود نيفين إلي الصوت الهادئ، ولكنه هذه المرة صوت شهودها المختارين بضميرهم الحي وحسهم اليقظ قبل أن ننتقل إلي موقعة الجمل بصخبها وغوغائيتها ويختفي وجه مبارك البغيض ليأتي وجه عمر سليمان الأكثر بغضا وصوته الأكثر برودة ولزوجة لتأتي الردود سريعا لتعيد للإيقاع حيويته ولتعيد للصورة الباهتة قوتها وسخونتها في تصاعد درامي ينتقل من ذروة إلي أخري.. من وجوه حزينة إلي رافضة إلي ساخطة إلي منفعلة كأقصي ما يكون الانفعال لتصل إلي التشنج ولطم الخدود..ربما تضعف نيفين قليلا أمام المبالغات الصارخة وقد تطول اللقطات أحيانا لأكثر مما ينبغي أويصل الصراخ إلي حد لا يطاق بطريقة كان يمكن السيطرة عليها مونتاجيا أو صوتيا. ولكن انفعال المخرجة باللحظة واللقطة كشريكة في الثورة يفرض عليها حالة من الاندماج التي تخل نوعا ما بالانضباط الفني والتأثيري، ولكنها سرعان ما تعود للسيطرة من جديد وهي تتنقل من الريبورتاجات الخاصة إلي الهتافات العامة، وعندما تتعالي الهتافات الغاضبة تعود المخرجة المتمكنة لتبدأ من الصوت الهادئ من جديد وهي تبني وحدة جديدة في مؤلفها السينمائي البليغ، فنستمع إلي صوت الشاب الواعي وهو يحدثنا عمن يوصفون بأنهم أصحاب الأجندات في إسرائيل وأمريكا ليؤكد بهدوء أن هؤلاء آخر ناس لهم مصلحة في رحيل مبارك لأنه حامي استثماراتهم ومصالحهم في مصر عكس ما يزعم خدم النظام. وتتوالي مشاهد التقرير الأرشيفي الوثائقي التي تفضح بالصورة مزاعم مبارك وأنصاره في أن الأمريكان هم الذين يجندون المواطنين لخلعه، فالصورة تكشفه لمن لا يعرفون كأقرب الأقرباء والحليف المخلص لمن يصفهم الآن بأعدائه وأعداء الوطن، وهي تصل به إلي لحظته الفاصلة لتفضح أجندته المزعومة في آخر حلقات فيلمها الذي تحدده بلافتة " الخميس 10 فبراير في انتظار خطاب الرئيس الثالث"؟ الحذاء يتكلم من هذا الخطاب تتخير الأجزاء التي يعيد ويزيد فيها حول موضوع الأجندات الكاذب.، وقبل أن تصدر لنا لقطات الأحذية في مواجهته تسبقها بلافتة "لكنه لم يتنح"، وتعقبها بكلمة بسيطة لرجل بسيط وهو يشير إلي حذائه " يارب تفهم بس من ديه"..وتتوالي لقطاتها العامة المتنوعة المتصاعدة للمظاهرات الغاضبة من أماكن وزوايا مختلفة بصورة مكثفة غير مسبوقة، حتي يأتي بيان عمر سليمان بتخلي المخلوع عن السلطة، لتتوالي اللقطات الأعم والأوسع مجالا كاشفة عن فرحة الجماهير الطاغية بخلع الطاغية، ولتنهي نيفين فيلمها بأغنية "احلم معانا ببكرة جاي" مع توالي اللوحات الساخرة من أكذوبة الأجندات، وتعقبها العناوين المتلاحقة عن القبض علي رموز النظام أصحاب الأكذوبة ومن بعدهم مفجرة رأس النظام نفسه، تتركنا نيفين مع هذه الأغنية المتفائلة والحالمة ومع هذه الأخبار المبهجة السارة. وبقدر جرعة الأمل والتفاؤل التي ينتهي بها الفيلم بقدر ما يثير فينا الشجن والمرارة ونحن نشاهده اليوم، بعد ان توقفت الانجازات عند هذه الحدود، وتوالت الاتهامات والطعنات من جديد لرموز الثورة ورجالها ونسائها، ونيفين بالطبع لم يكن في حسبانها أوحسبان أحد أن يعود حديث الأجندات من جديد كما نعيشه الآن، وثقت نيفين بأمانة للحظات أمل وتفاءل عشناها جميعا ونقلت ببلاغة فنية معركة التحرير ضد مدعي الأجندات الكاذبين، كنا نعتقد أننا أخرسناهم ولكن حديثهم الكاذب لن ينتهي ما دامت الثورة لم تنتصر نهائيا ومادام الفلول وبقاياهم يهيمنون علي كل القطاعات والهيئات، وفي انتظار فيلم نيفين الجديد في أمل بغد جديد ونصر جديد علي رافعي رايات الأجندات الكاذبة حتي إشعار آخر.

No comments:

Post a Comment