Wednesday, February 29, 2012

مقالي عن فيلم "تحرير 2011" في "القاهرة" 13 ديسمبر 2011


أسامة عبد الفتاح يكتب:

"تحرير 2011".. الثورة تصل إلى السينما أخيرا

** رؤية متزنة وتوثيق مهم لثورة يناير.. ومحاولة تاريخية نادرة لكسر "تابوه" الشرطة والاستماع لضباطها

** "الشرس" أفضل الأجزاء الثلاثة.. و"السياسي" أضعفها لأنه أقرب إلى البرنامج التليفزيوني الساخر

بعد عام الثورة الصاخب، الذي أثرت خلاله الأحداث السياسية المتلاحقة بالسلب على صناعة السينما، جاءت نهايات 2011 - وتحديدا يوم الأربعاء الماضي - لتحمل بعض الأنباء السارة للسينما المصرية.. ففي ذلك اليوم، بدأ عرض فيلمين مصريين مهمين حققا العديد من النجاحات الدولية: الروائي "أسماء" والوثائقي "تحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي".. والأهم أن اليوم المذكور شهد، أخيرا، وصول روح ثورة 25 يناير وبشائر التغيير التي تحملها إلى السينما، بعد أن ظلت تلك الأخيرة بعيدة كل البعد عما يجري في مصر من متغيرات.

ولا يكمن وصول الثورة للسينما بالطبع في تناول "تحرير 2011" لأحداثها، بل في شجاعة التغيير التي تحلى بها منتجو وموزعو الفيلم ودفعتهم لعرضه تجاريا - وإن كان في ثلاث صالات فقط - في مواجهة الأفلام الروائية، في سابقة شديدة الندرة بتاريخ السينما المصرية.. وهنا لا أريد أن أقطع بأنه أول فيلم وثائقي مصري يعرض تجاريا، وأعتقد أن هذه المعلومة في حاجة لبحث دقيق - ليس هنا مجاله - لتأكيدها.

يتكون "تحرير 2011" من ثلاثة أجزاء تعرض في ساعة ونصف الساعة تقريبا: "الطيب"، والمقصود به الشعب المصري، من إخراج تامر عزت، و"الشرس"، في إشارة لجهاز الشرطة، من إخراج آيتن أمين، و"السياسي"، الذي يركز على الرئيس المخلوع حسني مبارك، من إخراج عمرو سلامة.. وبشكل عام، يعد الفيلم توثيقا سينمائيا مهما لثورة يناير سيحفظه التاريخ الذي لا يعترف بنشرات الأخبار، كما يقدم رؤية متزنة هادئة ليوميات وأحداث الثورة بعيدا عن التشنج السياسي ومحاولة استدرار تعاطف الجمهور بالمشاهد المؤثرة للشهداء والمصابين وعمليات الاعتداء المتعمد عليهم.. لكن ذلك لا يمنع أن عيون المشاهدين من الممكن أن تدمع - كما حدث معي - تأثرا بعظمة المصريين التي ينجح الفيلم في التعبير عنها من دون ادعاء أو "زعيق" سينمائي يجيد مخرجون آخرون ممارسته.

يوميات وشهادات

وفي إطار هذه الرؤية المتزنة، يسرد جزء "الطيب" يوميات الثورة من خلال شهادات عدد من أبطالها جرى اختياره بعناية شديدة ليعبر عن كافة التيارات والفئات التي شاركت في الثورة من دون الانحياز لإحداها على حساب الأخرى، في توازن يثير الإعجاب حقا.. فقد تابعت كاميرا تامر عزت واستمعت لأحد شباب الإخوان المسلمين، وناشطة ليبرالية "سافرة"، ومصور شاب قطع منحته لدراسة التصوير الصحفي في الدنمارك ليعود إلى مصر ويسجل مشاهد الثورة بالكاميرا، وطبيبة "محجبة" شاركت في إسعاف الجرحى بالمستشفى الميداني الذي أقيم خلال الثورة في زاوية مخصصة أصلا للصلاة.

وقد أعجبني أسلوب القطع المتوازي الذي استخدمه تامر - بمهارة مهنة المونتير التي يجيدها ومارسها في فيلمي "المدينة" و"المسافر" - للتنقل بين الشهادات في وقت تصوير الفيلم وبين اللقطات الحقيقية وقت حدوثها، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها "الجزّامة" المستخدمة لوضع الأحذية في المسجد، والتي تشير إليها الطبيبة لتقول إنها استخدمت لحفظ الأدوات الطبية خلال الثورة، فيقطع المخرج عليها لنراها ممتلئة بهذه الأدوات وقت الأحداث.

أما الجزء الثاني، المسمى "الشرس"، فهو أفضل أجزاء الفيلم الثلاثة، ليس لتفوقه التقني، فالجزء الأول أفضل تقنيا، ولكن لفكرته الجيدة، وجرأته، وإقدامه على كسر "تابوه" تقليدي في حياة المصريين، وهو جهاز الشرطة، خاصة الأمن المركزي، بكل اللغط الذي أثير حوله، وكل الانتقادات التي وجهت له أثناء وبعد الثورة.. وهذه محاولة تاريخية نادرة للاقتراب من هذا الجهاز الحساس، وسبر أغواره، ومنح ضباطه فرصة التعبير - وليس الدفاع - عن أنفسهم، والإنصات جيدا لهم، بدلا من الاكتفاء بمهاجمتهم وانتقادهم بشكل جماعي وكأنهم كتلة واحدة صماء لا سبيل لتفتيتها.

نهاية موحية

ورغم أن ضابطين فقط يظهران بوجهيهما في الفيلم، أحدهما من جيل الشباب والآخر من جيل الوسط، ورغم أنه يجري تغطية وجهي ضابطين آخرين رفضا الإفصاح عن شخصيتيهما بالشاشة المظلمة و"الكاشات" البصرية، إلا أن ذلك لا يضايق المشاهد، بفضل المضمون القوي، والحوار الجيد الذي أدارته آيتن أمين، ولقطات أحداث الثورة التي تقطع عليها المخرجة أثناء حديث الضباط، وكأنها تعلق على كلامهم سلبا أو إيجابا.

واختارت آيتن نهاية موحية ومعبرة للجزء الخاص بها، حيث تسأل الضابط ذا الوجه المظلم عن ضرب البلطجية، فيفهم السؤال بطريقة مجازية، ويرد قائلا إن ضربهم ضروري لإحلال الأمن، فتعود لتوضح أنها تقصد الضرب الجسدي، فيصمت الضابط طويلا ثم يبتسم قائلا: "ماعرفش"، لتنهي المخرجة تحقيقها السينمائي، ولتظل معضلة الشرطة قائمة إلى حين إعادة هيكلة هذا الجهاز الحيوي.

ويعد الجزء الثالث، الذي أخرجه عمرو سلامة بعنوان "السياسي"، أضعف أجزاء الفيلم، وأقلها تأثيرا، بل يبدو غريبا عن العمل ككل، لأنه ينتقل فجأة من الأسلوب الوثائقي التسجيلي المتبع في الجزءين الآخرين، إلى أساليب البرامج التليفزيونية الساخرة الشائعة في القنوات الفضائية، وكأنه اختار طواعية التخلي عن اللغة السينمائية - المطلوبة في مثل هذا النوع من الأفلام - من أجل صناعة كوميديا سهلة قائمة على النكات والقفشات والصور المركبة المنتشرة في مواقع الإنترنت، إلى درجة أنه يضطر لكتابة عبارة "محتوى من الإنترنت" عليها من باب الأمانة، فضلا عن المسرحيات الكوميدية التي يستخدم لقطات منها هي الأخرى.



شخصيات محروقة

يتناول هذا الجزء شخصية الرئيس المخلوع حسني مبارك، ويتساءل عن سر تحوله إلى ديكتاتور رغم المؤشرات الإيجابية المشجعة في بداية حكمه، مثل إفراجه عن المعتقلين السياسيين وإعلانه أنه لن يبقى في الحكم أكثر من فترتين.. ثم يحدد المخرج، من وجهة نظره الشخصية، عشر خطوات - معظمها ساخر - قادت مبارك إلى طريق الديكتاتورية.. لكن المشكلة أن ذلك يتم بخفة شديدة لا تتناسب مع جدية الحدث، ولا مع باقي الفيلم الذي من المفترض أن يكون هذا الجزء الثالث مكملا له وخاتمة لأحداثه، حتى وإن كان منفصلا، ولو لم يكن هذا التكامل مطلوبا، لما وضعت الأجزاء الثلاثة في فيلم واحد، ولقدم كل مخرج فيلمه مستقلا.. كما كنت أفضل أن يكون عنوان هذا الجزء "الديكتاتور" بدلا من "السياسي"، لأن الحديث كله يدور عن ديكتاتور لا يتمتع بحس السياسي.

ويلجأ عمرو إلى شهادات عدد من الساسة والكتاب والأطباء النفسيين للتأكيد على وجهة نظره، ولا غبار على ذلك بالطبع، غير أن هذا الاختيار يؤكد للأسف الطابع التليفزيوني لهذا الجزء، لأن المصادر التي يلجأ إليها من الشخصيات "المحروقة" إعلاميا التي تظهر باستمرار في القنوات الفضائية، بعكس الشخصيات البكر التي يقدمها الجزآن الآخران، والتي تجعل متابعتهما ممتعة لأن هناك ترقبا دائما لما تقوله مصادرهما، في حين أن آراء شخصيات الجزء الثالث - ومنها الدكاترة محمد البرادعي ومصطفى الفقي ويحيى الرخاوي - معروفة سلفا وقيلت في أكثر من مناسبة سابقة.

ورغم هذه الملاحظات، يظل "تحرير 2011" من أفضل وأهم أفلام هذا العام، ومن أنضج الأعمال الفنية التي تعرضت لثورة يناير، لأنه يحاول أن يكون موضوعيا، وينجح في ذلك إلى حد كبير، بالنظر إلى صعوبة الموضوعية عند التطرق لقضية محسومة عاطفيا وسياسيا

No comments:

Post a Comment