Wednesday, February 29, 2012

مقالي عن فيلم "وهلأ لوين؟" في "القاهرة" 3 يناير

أسامة عبد الفتاح يكتب:
"وهلأ لوين؟".. أنشودة سينمائية للحياة والحب والسلام
** نادين لبكي صنعت فيلمها بحرية مطلقة فأصبح عملا ممتعا وأضاء مناطق غير مسبوقة سينمائيا
** نقطة الضعف تكمن في عدم اعتناء السيناريو برسم الشخصية الرئيسية وعلاقتها بالجنس الآخر
بعد عرض الفيلم الوثائقي "تحرير 2011" تجاريا في ديسمبر الماضي، في حدث سينمائي نادر بالسوق المصرية، شهدت الأيام الأخيرة من العام المنصرم حدثا مهما آخر يعد مؤشرا جديدا على التطورات الإيجابية بهذه السوق بعد الثورة، وهو عرض فيلم "وهلأ لوين؟"، للمخرجة والممثلة اللبنانية نادين لبكي، بدور العرض المصرية، وإن كان بعدد قليل من النسخ، على أساس أن الفيلم "أجنبي"، رغم أنه عربي، ورغم أن مصر مشاركة في إنتاجه، وهذه معضلة في حاجة إلى تفسير.
الفيلم إنتاج لبناني فرنسي مصري إيطالي مشترك، وتعدد جهات الإنتاج يجبر المرء على أن ينسب الفيلم لمخرجه، وبذلك يصبح "وهلأ لوين؟" لبنانيا، خاصة أنه ناطق باللهجة اللبنانية، وأحداثه تدور في لبنان.. غير أن ذلك ليس مبررا لاعتبار الفيلم أجنبيا لدى توزيعه في مصر، فالأفلام العربية يجب أن تحظى بمعاملة نظيرتها المصرية، ويجب أن يميزها أباطرة التوزيع المصريون عن الأفلام الأجنبية بحق، أو الأمريكية على وجه التحديد، خاصة إذا كانت متميزة وحاصلة على جوائز دولية، كما هي الحال مع فيلم نادين.
وفي كل الأحوال، فإن عرض الأفلام العربية تجاريا في مصر يعد حلما، ليس فقط للنقاد والمتابعين والمهتمين المصريين بشئون السينما، ولكن أيضا للسينمائيين العرب.. وأذكر أن المخرج التونسي رشيد فرشيو قال - في حوار أجريته معه منذ نحو 15 عاما - إن من بين أحلامه أن تخصص مصر ولو قاعة واحدة لعرض الأفلام العربية.. ولا شك أن عرض فيلم نادين الأول "سكر بنات"، ثم الثاني "وهلأ لوين؟"، في مصر، يعد بداية على طريق تحقيق الحلم.
سؤال بلا إجابة
اسم "وهلأ لوين؟" يعني: "والآن إلى أين؟"، ورغم أنه قد يبدو سخيفا أن أترجم اللهجة اللبنانية "العربية" إلى العربية، إلا أنني لم أجد مفرا من ذلك بعد أن وجدت أن معظم المصريين يسمون الفيلم "هلاوين"، وكأنه جزء من سلسلة أفلام الرعب الأمريكية الشهيرة، بمن في ذلك موظفو دار العرض التي شاهدته فيها، إلى درجة أن الخطأ طال لوحة ترخيص الرقابة التي تسبق عرض الفيلم.
تنطلق نادين لبكي من هذا السؤال البسيط، وبه تنهي فيلمها، في إشارة إلى أنه سيظل بلا إجابة، وإلى أننا سنظل نتساءل عن الطريق التي يجب أن نسلكها.. وبساطة السؤال تحكم الفيلم كله، حيث يختار صناعه تبني وجهة النظر البسيطة لبطلاته من النساء في مواجهة الحرب والكراهية وحمامات الدم، وتبني طريقتهن وحيلهن الصغيرة لوأد الفتنة الطائفية وتحقيق السلام لحماية أولادهن وأزواجهن وضمان استمرار الحياة كما عرفنها وعشنها.
من الممكن أن ترمز الضيعة اللبنانية النائية والمعزولة، التي تدور فيها أحداث الفيلم، إلى لبنان كله، أو إلى الوطن العربي كله، فنحن إزاء قرية مسالمة يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون، ويتجاور فيها المسجد والكنيسة، ولا يربطها بالعالم الخارجي شيء بعد تحطم الجسر الواصل إليها، وكل ما يطمح إليه أهلها أن يعيشوا في سلام، بعيدا عن ويلات الحرب والسياسة، شأنهم شأن معظم العرب.. وللدلالة على معاناة الضيعة، توضح جملة حوارية بليغة أن أمواتها أكثر من أحيائها، وذلك ما يدفع نساءها للاستماتة دفاعا عمن تبقى من رجالهن.
حيل وألاعيب
تليفزيون وحيد في الضيعة ينقل أنباء فتنة طائفية قريبة، فتبدأ سلسلة حيل النساء لإخفائها عن الرجال حتى لا يمتد نزيف الدماء إلى قريتهن المسالمة، وتكون البداية بإفساد التليفزيون، ثم إحراق الصحف التي تتحدث عن الفتنة.. ولأن أخبارا كهذه لا يمكن التعتيم عليها طويلا، تبدأ المناوشات الطائفية في الضيعة، وتتصاعد، فتتصاعد معها حيل النساء لإطفاء النار، ومنها استقدام راقصات أوكرانيات لإلهاء الرجال.. ومع وصول الأزمة إلى الذروة بمصرع أحد شباب القرية المسيحيين برصاصة طائفية طائشة أثناء إحدى رحلات الموتوسيكل لشراء احتياجات الأهالي، تصل الحيل والألاعيب إلى ذروتها بدورها، حيث تقرر النساء - بمعرفة شيخ الجامع وقس الكنيسة - عمل مخبوزات بالحشيش وحبوب الهلوسة لتخدير الرجال حتى تتاح لهن فرصة دفن أسلحتهم لمنع الحرب.
أما المنطقة المضيئة وغير المسبوقة سينمائيا في أي فيلم آخر، فتكمن في الجزء الأخير، حين تلجأ النساء للحيلة الكبرى والأخيرة، حيث توحي المسلمات لأزواجهن وأولادهن أنهن تحولن إلى مسيحيات، ويبدأن في التصرف على هذا الأساس، بما في ذلك خلع الحجاب.. وتفعل المسيحيات العكس، بمن فيهن والدة الشاب المقتول، التي تواجه ابنها الآخر مرتدية الحجاب، وتقول له - في مشهد جميل أدته الممثلة كلود باز مصوبع باقتدار - إنه إذا كان يريد أن ينتقم لشقيقه فلينتقم منها هي، لأنها أصبحت من المسلمات!
ولا أريد أن يتهمني أحد بأنني "أحرق" الفيلم، لأن أي سرد للأحداث - أو حتى النهاية - لا يمكن أن يغني عن مشاهدة هذا العمل الممتع وتلقي طاقة الإبداع الهائلة التي تشع من معظم مشاهده بروح الكوميديا السوداء الساخرة التي تفجر الضحكات بقدر ما تدر الدموع، وهذا شأن الأعمال الفنية العظيمة التي تحاكي الحياة بكل ما فيها من متناقضات السعادة والحزن واليأس والأمل.
العبث المقبول
وقد رأى البعض أن أسلوب معالجة الفيلم لموضوعه ينطوي على عبث شديد، وخفة واضحة، رغم أن قضية الفتنة الطائفية المطروحة شديدة الجدية والأهمية، وهؤلاء أختلف معهم تماما، حيث أرى أن أسلوب العبث مناسب للغاية لعبث الحرب التي يدعو الفيلم لتجنبها.. وهنا تجب الإشارة إلى أن مشكلة الفتنة الطائفية في لبنان مختلفة عن مثيلاتها في أي دولة أخرى، حيث وصلت إلى حد الحرب الأهلية على مدى سنوات طويلة، وإلى حد الجنون والعبث الكامل، وبالتالي صار اتباع أسلوب العبث - لدى معالجتها سينمائيا - مقبولا.
استخدمت نادين لبكي خبرتها كمخرجة فيديو كليب في عمل إيقاع شديد الحيوية والتدفق للفيلم، لا يترك الملل يتسلل إلى المشاهدين لحظة واحدة.. وظهرت هذه الخبرة بشكل مباشر في إخراج أغنيتين بالفيلم، إحداهما حالمة اعتمدت فيها على القطع المتوازي بين الواقع والعلاقة المتخيلة بين شخصية السيدة المسيحية التي تؤديها بنفسها (آمال) وشاب مسلم، والأغنية الأخرى اختارت لها إيقاعا راقصا ومبهجا، حيث تؤديها نساء الضيعة وهن يصنعن المخبوزات بالحشيش، واسمها بالمناسبة "حشيشة قلبي".
حرية مطلقة
وأعجبتني الحرية المطلقة التي صنعت بها المخرجة فيلمها، من دون أي حساسيات أو حسابات دينية أو سياسية، ومن دون أي مضايقات رقابية، خاصة في المشهد الذي توجه فيه الأم المسيحية الثكلى كلامها بعنف إلى السيدة العذراء في الكنيسة، وتصرخ فيها لتلومها على عدم الحفاظ على ابنها، في حين أنها تحتضن ابنها هي - أي السيد المسيح - بين ذراعيها.. وهناك أيضا العديد من المشاهد التي تسخر من ادعاء البعض مخاطبة العذراء أو ظهورها لهم.
تكمن أبرز نقاط الضعف بالفيلم في السيناريو، الذي كتبته نادين بالاشتراك مع جهاد حجيلي ورودني حداد، ومنها أنه لم يعتن بالقدر الكافي برسم الشخصيات، خاصة شخصية "آمال" الرئيسية (نادين لبكي)، التي لا نكاد نعرف عنها شيئا، فضلا عن علاقتها الغائمة والغامضة ب"ربيع" المسلم، والتي لم تكن عادية وفي نفس الوقت لم ترق إلى مستوى قصة الحب وبدت مبتورة ومبتسرة.. وكان من المفترض في رأيي بذل المزيد من الجهد في إضافة أبعاد وأعماق أكثر للضيعة وقصتها وتاريخ معاناتها مع الفتنة أو غيرها، بدلا من الاكتفاء بوضع مقابر القتلى في الخلفية.
ورغم العيوب البسيطة، يعد "وهلأ لوين" تحفة سينمائية يندر أن يجود العرب بها، وأنشودة شجية وجميلة للحياة والحب والسلام، ودعوة عالية الصوت لنبذ الخلافات والصراعات وحقن الدماء، والأهم: التسامح والتعايش وقبول الآخر

No comments:

Post a Comment