Friday, December 30, 2011

السينما في عصر مبارك - الحلقة السادسة


السينما في عصر مبارك.. مشاهد وأحداث- ٦
"سهم" الأزمة المالية العالمية يصيب قلب السينما المصرية
** مرحلة الكساد بدأت عندما توقفت القنوات الفضائية عن شراء الأفلام وحق عرضها "الحصري"
** مشروعات الأفلام الضخمة تأجلت.. ثم تحولت إلى مسلسلات لم تنفذ حتى الآن
حلقات يكتبها:
أسامة عبد الفتاح
قبل وقوع الأزمة المالية العالمية في سبتمبر 2008، كان الأباطرة الذين يسيطرون على سوق الإنتاج والتوزيع السينمائي في مصر، يقسمون الأفلام إلي ثلاث فئات:(أ) و(ب) و(ج).. والفئة الأولي تضم أفلام النجوم السوبر، وكانوا وقتها بشكل أساسي: عادل إمام، وأحمد حلمي، وأحمد السقا، وبشكل احتياطي: محمد سعد، ومحمد هنيدي، وكريم عبد العزيز، وانضم إليهم قبيل اندلاع الأزمة أحمد مكي.. والفئة الثانية تضم أفلام النجوم التاليين في الترتيب من حيث الإيرادات، ومنهم: أحمد عز، ومصطفى شعبان، ورامز جلال، وأحمد رزق، ومحمد رجب.. أما الفئة الثالثة فتضم الفنانين الصاعدين والوجوه الجديدة والمطربين أو المذيعين الذين يخوضون تجربة السينما لأول مرة.
وكان أباطرة الإنتاج والتوزيع ـ في التكتلات الثلاثة الكبيرة العاملة في مصر ـ حريصين على تنفيذ أفلام الفئة (أ)، لأن ربحها ـ من وجهة نظرهم بالطبع ـ مضمون، وإيراداتها معروفة.. ولم تكن هناك مشكلة كبيرة في أفلام الفئة (ج)، لأن ميزانياتها محدودة للغاية، ولا تمثل عبئا، لا على من يمولها، ولا على من يشتريها، وأتحدث عن ميزانيات لا تتجاوز المليون ونصف المليون جنيه.. أما المشكلة الحقيقة فكانت تكمن في أفلام الفئة (ب)، التي كانت تضم غالبية نجوم السينما في ذلك الوقت، فنسبة المخاطرة فيها عالية لأن ميزانياتها كبيرة نسبيا، والأرباح المتوقعة من ورائها محدودة، وغير مضمونة.
وما حدث باختصار أن الأزمة المالية العالمية أثرت على الشركات الكبرى التي كانت تعلن في قنوات الأفلام الفضائية، والتي كانت تعتمد عليها هذه القنوات في إيراداتها.. وظهرت شدة الأزمة عندما بدأت السلاسل العالمية ـ المنتجة للمياه الغازية والوجبات السريعة وما إلى ذلك ـ تتأثر، فقد كانت المعلن الرئيسي في القنوات الفضائية.. وأدى تراجع إيرادات الإعلانات إلى تراجع القنوات عن شراء الأفلام، وبدء عصر الكساد الذي تعاني السينما المصرية من بعض آثاره حتى اليوم.
وكانت منطقة الخليج أكثر المناطق العربية تأثرا بالأزمة العالمية، نظرا لاستثمارها معظم أموالها في البنوك والهيئات الدولية التي تأثرت وانهار بعضها بسبب الأزمة، ونظرا لارتباطها بمعاملات ومصالح ـ ليس هنا مجال ذكرها - مع الدول الأكثر تضررا..
وبما أن أهم قنوات الأفلام الفضائية تنتمي إلى منطقة الخليج، فقد تأثرت بشدة بالأزمة، وبدأت تحد ـ ولا أريد أن أقول تتوقف ـ عن شراء الأفلام، حيث كان الشراء في أضيق الحدود ولم يكن يخرج عن أسماء نجوم بعينهم العائد من ورائهم مضمون، وهم بالطبع النجوم السوبر الذين لا يزيد عددهم على أصابع اليد الواحدة.
وأدى ذلك إلى ارتباك السوق السينمائية عندنا، وتعطل معظم مشروعات الأفلام، خاصة تلك التي تنتمي إلى الفئة (ب) من حيث ضخامة الإنتاج، والتي تضم معظم النجوم بعد استبعاد السوبر ستارز، الذين كانت أفلامهم تنفذ بأي طريقة لأن عائدها مضمون كما قلنا، وبعد استبعاد الوجوه الجديدة لأن أفلامهم ـ كما قلنا أيضا ـ لا تمثل عبئا ماليا سواء على المنتجين أو المشترين.
وأفلام الفئة (ب) تتكلف في المتوسط ستة أو سبعة ملايين جنيه، كانت القنوات الفضائية تدفع منها خمسة أو ستة ملايين مقابل العرض الحصري الأول وشراء النيجاتيف، بحيث تحصل هي على العائد إذا أرادت قنوات أخرى أن تعرض عرضا ثانيا.. ومعنى ذلك أن المنتج كان يغطي نحو80% من تكاليف الإنتاج قبل حتى أن يعرض الفيلم تجاريا، وكانت تتبقي 20% من السهل جدا ـ بل من المضمون ـ تغطيتها من شباك التذاكر ومن الإيرادات الأخرى.
أما توقف القنوات الفضائية عن الشراء، فكان معناه ببساطة أن يخاطر المنتج بـ100% من التكاليف، وأن يغطي هذه النسبة كلها من العرض التجاري المحلي، وهذا في عرف المنتجين مستحيل، أولا لأن رأس المال جبان، وثانيا لأنه من الصعب أن يثقوا في أن سلعتهم - أي نجوم الوسط - ستحقق كل هذا العائد من دون مساعدة صديق!
والغريب أنه في بدايات الأزمة، لم يكن أحد في الوسط السينمائي يريد أن يعترف بها أو حتى يناقشها، ولا أعرف لماذا.. كعادتنا في كل قضايانا وفي كل ما يمس حياتنا، كان الغموض يكتنف هذه القضية كأنها لغز أو طلسم، رغم أن المسألة بسيطة وتتعلق بالحساب والمنطق وليس بالغيبيات والميتافيزيقا.. والبعض قصرها على المحطات الفضائية التي تشتري الأفلام والتي تعاني من غياب المعلنين، وأصر على أن إيرادات دور العرض لن تتأثر لأن السينما ستظل أرخص وسيلة ترفيه بالنسبة للجمهور، وتوقع أن الأزمة ستنعكس فقط في تأخر دورة رأس المال مقارنة بالمعدلات التي اعتاد عليها المنتجون.
ولم يكن ذلك صحيحا، فقد أثرت الأزمة على الشركات الكبرى وليس على المحطات الفضائية فقط، بدليل توقف معظم مشروعات الأفلام الضخمة التي كان قد أعلن عنها في ذلك الوقت، ثم تأجيلها إلى أجل غير مسمى، ثم تحويلها إلى مسلسلات لم تنفذ بدورها حتى الآن، مثل "فرقة ناجي عطا الله" و"محمد علي" و"الطفل العملاق" وغيرها.
ويتذكر الكثيرون كيف غضب النجم يحيى الفخراني عندما تأجل تصوير فيلم "محمد علي"، الذي يعد حلما من أحلام عمره، وزاد غضبه عندما بدأت الشركة المنتجة تصوير فيلمها الآخر "بوبوس"، بطولة النجم عادل إمام، لكن ذلك لم يكن معناه أن إمام كان راضيا أو سعيدا، بل كان غاضبا هو الآخر، وقال في كل مكان إنه لأول مرة منذ عام 1963 يدخل فيلما من دون أن يقبض مليما واحدا، وقد وافق على ذلك مجاملة للشركة المنتجة التي قدرته كثيرا ولبت جميع مطالبه في أفلامه السابقة.
كان النجوم الذين لا يصورون غاضبين إذن، ويستولي عليهم القلق من المستقبل، والنجوم الذين يصورون لم يكونوا يشعرون بالأمان وهم يعملون، فلم يكونوا متأكدين من أنهم سيحصلون علي الأجور التي اتفقوا عليها..
وباختصار: طالت الأزمة الجميع، حتى الذين انتهوا من تصوير أفلامهم في وقت سابق، حيث كانوا يشكون تعطل مراحل تنفيذها النهائية وتأجيل خروجها إلى النور.
ولم يصدر اعتراف رسمي بالأزمة وخطورتها إلا في أواخر مارس 2009، أي بعد ستة أشهر كاملة من اندلاع الأزمة، حين أدلى السيناريست والمنتج فاروق صبري، نائب رئيس غرفة صناعة السينما وقتها، بتصريحات صحفية حول تأثير الأزمة المالية العالمية على صناعة السينما المصرية، قال فيها: إن الغرفة رصدت حركة الصناعة خلال الربع الأول من 2009 ـ مقارنة بنفس الفترة من العام السابق عليه ـ فوجدت أن السينما المصرية أنتجت خلال الشهور الثلاثة الأولى من 2009 ستة أفلام فقط، أي 50% فقط من إنتاج 2008.
وأضاف أن الغرفة بدأت تتخذ عدة خطوات لتعويض المنتجين وأصحاب دور العرض عن خسائرهم بعد أن استثمروا الملايين، لكنه لم يحدد وقتها سوى خطوة واحدة من هذه الخطوات، وهي زيادة عدد نسخ توزيع الأفلام الأجنبية من 5 إلى 8 نسخ.. والأفلام الأجنبية هي الأمريكية، أي أن تصورنا لحل المشكلة في ذلك الوقت لم يصب إلا في صالح تسويق الأفلام الأمريكية.. ثم أن هذه الخطوة كان من شأنها تعويض أصحاب دور العرض، ولم يتحرك أحد لتعويض المنتجين.
في الحلقة المقبلة:
وهم السينما المستقلة.. وأكذوبة التنبؤ بالثورة

السينما في عصر مبارك-الحلقة الخامسة

 السينما في عصر مبارك.. مشاهد وأحداث - 5

حكاية السيطرة الخارجية الدائمة.. و"شهر العسل" القصير
إسماعيلية رايح جاي - صنع من باب غسيل الأموال ثم أحدث زلزالا هز السوق السينمائية وغير قواعدها

نعمة القنوات الفضائية على المنتجين تحولت إلى نقمة بعد وقوع الأزمة المالية العالمية
حلقات يكتبها:

أسامة عبد الفتاح
من بداية عصر الرئيس السابق حسني مبارك عام 1981، وحتى أواخر التسعينيات من القرن الماضي، سادت في السينما المصرية – بشكل عام – نظم الإنتاج والتوزيع التي كانت قد استقرت في بدايات السبعينيات بعد تصفية المؤسسة المصرية العامة للسينما، وتوقف الدولة عن الإنتاج المباشر، واقتصار دورها السينمائي على شركتين، إحداهما للاستوديوهات والأخرى للتوزيع ودور العرض.. وفي الحقيقة، لم يكن هناك ثمة توزيع أو دور عرض.. لم تكن الأفلام المصرية "الكبيرة" توزع بأكثر من عشر نسخ داخليا، وكانت دور العرض قليلة، تدور حول رقم 300 دار فقط منها أقل من ثلاثين دار عرض درجة أولى، ولم تكن مصر قد عرفت سينما المولات والمجمعات التي يصل فيها عدد الشاشات إلى خمس أو أكثر.
وفي ظل هذه الظروف، كانت الإيرادات الداخلية للفيلم المصري ضئيلة، وغير مجزية للمنتجين، وكان تحقيق مليون جنيه في شباك التذاكر حلما صعب المنال بالنسبة لمعظمهم.. وعندما وصلت إيرادات بعض أفلام عادل إمام ونادية الجندي إلى خمسة ملايين جنيه محليا، اعتبر البعض ذلك إنجازا كبيرا ينم عن جماهيرية ساحقة.
أما الجزء الأكبر من إيرادات الفيلم المصري، فكان يأتي من التوزيع الخارجي في الدول العربية.. ومن هنا جاءت سطوة الموزع الخارجي، اللبناني في الأغلب، والذي أصبح – بمرور الوقت، وبسلف التوزيع التي كان يعطيها للمنتجين – يتحكم في معظم عناصر الفيلم، خاصة اختيار الأبطال والموضوع و"التوابل" الجماهيرية المطلوب – من وجهة نظره – إضافتها لضمان الإقبال على الفيلم، مثل العري غير المبرر لممثلات مطلوبات بالاسم في السوق العربية، والإفيهات الجنسية المبتذلة، ووصلات الرقص البلدي الدخيلة على الدراما.. وهذا يفسر سيل الأفلام التافهة والمبتذلة الذي أغرق السينما المصرية خلال تلك الفترة.
وفي المقابل، قدم بعض المنتجين العديد من الأفلام الجيدة التي سبق الإشارة إليها في هذه الحلقات، من دون تقديم هذه التنازلات.. ولا يعني ذلك أنهم كانوا يخسرون، بل كانوا يحملون مسئولية أعمالهم لنجوم معروفين يتم بيع الأفلام بأسمائهم على أمل تحقيق الإيرادات الكبيرة، لكن ذلك لم يكن يحدث، وكان هؤلاء المنتجين يكتفون في النهاية باسترداد أموالهم، تحقيقا للمقولة الشهيرة: "لا يوجد فيلم يخسر".
وحدث التحول الكبير عام 1997، مع عرض فيلم "إسماعيلية رايح جاي" لكريم ضياء الدين، الذي حقق فجأة وبدون مقدمات إيرادات قياسية تجاوزت 16 مليون جنيه، في زلزال هز السوق السينمائية وغير قواعدها وأصول اللعب فيها بشكل جذري.. واستمدت المفاجأة قوتها من حقيقة أن الفيلم ضعيف جدا فنيا وإنتاجيا، ولم يكن منتجه يجد 50 ألف جنيه لاستكماله فباعه، وقيل – في تحقيقات رسمية وقضية معروفة صدر الحكم فيها بالإدانة – إن من اشتراه تحمس لذلك فقط لغسل أموال كان قد استولى عليها بشكل غير مشروع من البنك الأهلي خلال عملية إقامة معرض للسلع المعمرة للعاملين بهيئة النقل العام، فإذا به يربح كل هذه الملايين التي لم يكن – هو أو أي شخص آخر – يتوقعها.
وتلقى المنتجون والموزعون رسالة الجمهور المصري واستوعبوها على الفور، وأدركوا أن هذا الجمهور سئم نجوم السينما التقليديين، الذين كانوا قد استأثروا بالشاشة الكبيرة لأكثر من عشرين عاما، وأنه يريد التغيير، فدفعوا إلى مقدمة الصفوف بمجموعة من ممثلي الأدوار الكوميدية الثانية الذين أطلق عليهم البعض لقب "المضحكين الجدد"، ومنهم محمد هنيدي – الذي نسب الكثيرون له نجاح "إسماعيلية رايح جاي" رغم أن البطل كان المطرب محمد فؤاد – والراحل علاء ولي الدين، وأحمد آدم، وأشرف عبد الباقي، وغيرهم.. وبعد قليل، لحق بهم في القمة ممثلون خرجوا أيضا من عباءة الأفلام الكوميدية لكن اختاروا فيما بعد – أو اختار لهم غيرهم – ما يسمى بأدوار "الأكشن"، مثل أحمد السقا وكريم عبد العزيز.
وتوالى، في بدايات القرن الحادي والعشرين، ظهور "نجوم الشباك" في الفريقين، فظهر في الفريق الكوميدي محمد سعد وأحمد حلمي وهاني رمزي وأحمد رزق وأحمد عيد وغيرهم، وكان آخرهم أحمد مكي، مع استمرار عادل إمام في العمل.. وظهر في فريق "الأكشن" مصطفى شعبان وأحمد عز ومحمد رجب وغيرهما.. وتوالى بالتالي حصد الإيرادات بالملايين من التوزيع الداخلي، لتعيش السينما المصرية "شهر عسل" قصيرا (لم يتجاوز عدة سنوات) كان اعتمادها الرئيسي خلاله، ربما لأول مرة منذ بدايتها، على الإيرادات الداخلية، وتحررت خلاله، ربما لأول مرة أيضا، من سطوة الموزع الخارجي أو أي طرف خارجي آخر.
ولم يستمر شهر العسل طويلا، حيث اجتمعت عدة أسباب على إنهائه، أهمها انتشار القنوات الفضائية – العربية والمصرية – المتخصصة في عرض الأفلام وغيرها، والتي أصبحت، في وقت لاحق، طرفا خارجيا جديدا يتحكم في السينما المصرية، أو على الأقل يلعب دورا بارزا في لعبة تحالفاتها وتكتلاتها ويؤثر على حسابات الربح والخسارة فيها.
كانت القنوات الفضائية، التي بدأ انتشارها الكبير عام 2003، نعمة ثم تحولت إلى نقمة منذ بدء الأزمة المالية العالمية في سبتمبر 2008، ولكي يتضح كيف حدث ذلك، لابد من التوقف قليلا عند آليات الإنتاج التي سادت في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ السينما المصرية.
فور انتشارها واشتعال المنافسة فيما بينها، أصاب قنوات الأفلام الفضائية ما يمكن تسميته "نهم" شراء الأفلام المصرية، لكي تملأ ساعات إرسالها وتحقق كل منها السبق علي حساب الأخرى، مما رفع أسعار هذه الأفلام بشكل جنوني، وجعل النجوم المطلوبين في سوق هذه القنوات يتدللون علي المنتجين ويغالون في طلباتهم.. ولا أقصد الأجر فقط, بل أيضا المطالب الخاصة بالعمل مع فنانين وفنيين بعينهم، مثل ممثلي الأدوار المساعدة ومديري التصوير والمونتيرين، فضلا عن المخرجين بالطبع.. إلي درجة أن بعضهم كان يشترط العمل مع عامل كلاكيت بعينه!
وأدي ذلك إلي رفع أجور هؤلاء الفنانين والفنيين بدورهم، وإلي زيادة ميزانيات الأفلام بشكل عام، وكان المنتجون يدفعون عن طيب خاطر، لأنهم لم يكونوا يدفعون من جيوبهم، بل من جيوب القنوات الفضائية، وكانوا متسامحين مع طلبات المخرجين الخاصة بزيادة علب الأفلام الخام أو زيادة عدد أسابيع التصوير.. وهكذا بدأنا نسمع عن ميزانيات لم تكن السينما المصرية قد عرفتها من قبل، وصلت إلي أكثر من عشرين مليون جنيه.
كانت السينما قد انتعشت في العصر الفضائي، وتضخمت ثروات المنتجين والنجوم، كما ارتفعت أجور الجميع، بمن فيهم كتاب السيناريو الذين كانوا مظلومين في الماضي، فإذا بأجور عدد منهم تصل إلي مليون جنيه.
كانت "الأشيا معدن" كما يقولون، حتى وقعت الأزمة المالية العالمية، ولنا معها حديث آخر.

في الحلقة المقبلة:
الأزمة المالية.. من الشركات العالمية إلى الخليج إلى قلب السينما المصرية



السينما في عصر مبارك-الحلقة الرابعة



عقدة السجادة‏..‏ والغياب الدائم عن المهرجانات الكبري 

حلقات يكتبها‏:‏أسامة عبد الفتاح 

حصلت السينما المصرية‏,‏ خلال عصر الرئيس السابق حسني مبارك‏,‏ أي خلال الأعوام الثلاثين الماضية‏,‏
علي عشرات الجوائز في مختلف الأفرع من عشرات المهرجانات المصرية والعربية والافريقية والآسيوية‏,‏ ليس هنا مجال حصرها‏,‏ وآخرها تانيت قرطاج الذهبي لفيلم أحمد عبد الله السيد ميكروفون‏,‏ وهرم القاهرة الذهبي لفيلم خالد الحجر الشوق‏,‏ أواخر العام الماضي‏.‏
لكن أفلامنا لم تفز بأي جائزة من أي مهرجان دولي كبير بحق‏(‏ كان ـ فينيسيا ـ برلين‏)‏ خلال هذه الفترة‏,‏ بل لم تشارك أصلا في المسابقات الرسمية لهذه المهرجانات باستثناء حالات نادرة جدا أبرزها المصير ليوسف شاهين في كان‏1998,‏ حين حل بديلا ـ في آخر لحظة ـ لأحد أفلام المخرج الصيني الكبير المعارض زانج ييمو‏,‏ الذي رفضت بلاده مشاركته‏..‏ ولم يحصل الفيلم علي جائزة‏,‏ فيما حصل شاهين نفسه علي جائزة اليوبيل الذهبي للمهرجان عن مجمل أعماله‏..‏ وأحدث المشاركات المسافر لأحمد ماهر في فينيسيا‏2009,‏ حين ضغط وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني بكل قوته وبكل علاقاته مع الجانب الايطالي لإشراك الفيلم في المسابقة‏,‏ باعتباره باكورة انتاج وزارته‏,‏ ولاقي الفيلم هجوما عنيفا من النقاد المصريين قبل الأجانب‏,‏ ولم يفز بأي جائزة بطبيعة الحال‏.‏
وخلال عصر مبارك‏,‏ وكل العصور السابقة‏,‏ لم تفز السينما المصرية بالأوسكار الأمريكي لأفضل فيلم أجنبي‏,‏ بل لم يتم ترشيح أي فيلم مصري لقائمة التصفية النهائية التي تضم خمسة أفلام‏,‏ رغم وجود لجنة طويلة عريضة مهمتها اختيار الفيلم الذي يمثل مصر‏,‏ بعد مناقشات ومداولات وتصويت‏!‏
ولأننا نعشق اللجان‏,‏ فنحن ـ في حدود علمي ـ الدولة الوحيدة في العالم التي شكلت لجنة اسمها العليا للمهرجانات‏..‏ وهذه اللجنة ـ وهي رسمية تتبع وزارة الثقافة ـ تتلقي طلبات المهرجانات الراغبة في اشتراك أفلام مصرية‏,‏ وترشح لها ما تريد من أفلام‏,‏ سواء طويلة أو قصيرة‏,‏ حيث أن هناك العديد من المهرجانات الدولية للأفلام القصيرة والتسجيلية‏.‏
وشخصيا‏,‏ لم أسمع في حياتي عن وصاية حكومية علي الفن أشد وطأة وتحكما‏..‏ فأعضاء اللجنة ـ مهما يعلو أو ييلغ شأنهم في عالم السينما ـ ليس من حقهم أن يكونوا أوصياء علي السينمائيين بحيث يرشحون ما يشاءون ويستبعدون ما يشاءون من أفلام‏,‏ فالأصل في الفن هو الحرية وليس من حق أحد أن يكون وحده وكيلا أو سمسارا للحقيقة‏.‏
وإذا كان أعضاء اللجنة يعرفون جيدا الحسابات والتوازنات المصرية‏,‏ ويحفظون عن ظهر قلب لائحة الموضوعات التي تسيء لسمعة مصر‏,‏ والموضوعات التي تحسن لهذه السمعة‏,‏ فإنهم بالتأكيد لا يعرفون شيئا عن أذواق وحسابات وتوازنات مسئولي المهرجانات الدولية‏,‏ ولا يعرفون أن هؤلاء المسئولين يضعون المعايير الفنية فوق كل اعتبار‏,‏ دون أن تشغلهم لحظة فكرة الإساءة لسمعة أحد‏,‏ لأن سمعة أي دولة ـ وليس مصر فقط ـ ليس لها علاقة بالسينما‏,‏ ولا يمكن أن تتأثر بأي فيلم‏.‏
وأول خطوة علي طريق استعادة وجود الأفلام المصرية في المهرجانات السينمائية الكبري‏,‏ يجب أن تكون إلغاء اللجنة العليا للمهرجانات‏,‏ وفتح الطريق أمام كل الأفلام للتقدم إلي كل المهرجانات‏,‏ من دون وصاية ولا تدخل‏..‏ ويجب أن تكون عناوين البريد الالكترونية والعادية‏,‏ وأرقام تليفونات جميع المهرجانات‏,‏ متاحة في كل المعاهد والمؤسسات والهيئات السينمائية لكي يتمكن السينمائيون من مخاطبة المهرجانات للمشاركة فيها‏.‏
وإذا أرسل أحد المهرجانات إلي وزارة الثقافة ـ أو أي من هيئاتنا ـ طالبا اشتراك فيلم مصري‏,‏ يجب أن يعلن ما يفيد بذلك في كل المؤسسات والهيئات وشركات الانتاج السينمائية حتي يتقدم من يريد‏,‏ حتي لو تقدم إلي كل مهرجان‏20‏ فيلما مصريا‏..‏ ولنترك لمسئولي هذه المهرجانات فرصة الاختيار‏.‏
ويبقي السؤال‏:‏ لماذا لا نشارك‏..‏ لماذا تسبقنا دول مثل إيران والهند ودول الشرق الأقصي‏,‏ رغم أن بعضها لا يملك تاريخنا السينمائي‏,‏ وليس عنده إمكاناتنا البشرية والتقنية؟
أسئلة قد يراها البعض صعبة جدا وليس لها إجابة‏,‏ وقد يعتبرها البعض الآخر شديدة السهولة وإجاباتها حاضرة من نوع‏:‏ ضعف المستوي الفني والتقني لأفلامنا‏,‏ واتجاه معظم السينمائيين للموضوعات التافهة والهزلية‏,‏ وميلهم إلي الاستسهال وأسلوب السلق في التنفيذ للحاق بالمواسم السينمائية والفوز بنصيب من كعكة الإيرادات‏,‏ التي يصنعها الاستظراف وليس الإجادة‏.‏
هناك جانب فني بلاشك‏,‏ لكن هناك أيضا فن العلاقات الدولية والتسويق‏..‏ فنحن نعرف قبل غيرنا أننا فاشلون في تسويق أنفسنا ومنتجاتنا‏,‏ سواء من السلع أو الأفلام‏..‏ وهذا ما كان ـ ولايزال ـ يعوق سعينا لزيادة صادراتنا‏..‏ فسلعنا قد تكون أفضل من سلع غيرنا لكننا نسيء تغليفها وإضفاء اللمسة الأخيرة عليها‏..‏ والأهم أننا نفشل في تسويقها بعد الانتهاء من تصنيعها‏..‏ حيث ننتظر دائما أن يأتينا من يشتريها دون أن نتحرك أو نسعي نحن إليه‏.‏
وفي المجال السنيمائي‏,‏ ظللنا لسنوات طويلة ننتظر أن تطلب المهرجانات الدولية مشاركة مصر بأفلامها‏,‏ فتنعقد اللجنة العليا للمهرجانات وتختار الفيلم أو الأفلام المرشحة‏,‏ ويتم اتخاذ الإجراءات الإدارية والروتينية اللازمة‏..‏ وهذه طريقة عفا عليها الزمن‏,‏ وإن كانت تصلح لمهرجان سان سباستيان أو واجادوجو‏,‏ فهي لا تصلح للمهرجانات الكبري التي يجب أن نسعي نحن إليها‏.‏
ولا أقصد فقط أن تتقدم أفلامنا بطلبات للمشاركة‏,‏ ولكن أقصد أساسا أن نقيم العلاقات اللازمة والمناسبة مع هذه المهرجانات‏,‏ وهذا يستلزم وجود كوادر مدربة وتتحدث مختلف اللغات في الجهات السينمائية الرسمية التي تتولي ملف العلاقات الدولية‏,‏ أو حتي في شركات الإنتاج الكبري التي يجب أن تسعي هي الأخري للوجود في المهرجانات الدولية‏,‏ ليس للفوز بالجوائز‏,‏ ولكن للترويج لأفلامها‏,‏ وفتح أسواق جديدة لها‏.‏
وطالما ثارت تساؤلات فنية حول قدرة دول أخري ـ مثل إيران ـ علي الوجود الدائم في كل المهرجانات والمحافل الدولية‏,‏ والفوز بجوائزها‏,‏ رغم أن إمكاناتها البشرية والتقنية لا تقارن بإمكاناتنا الكبيرة‏,‏ ورغم أنها لا تتمتع بالحرية التي تتمتع بها أفلامنا‏..‏ فالرقابة في إيران حديدية وقائمة ممنوعاتها لا تنتهي‏..‏ فإلي جانب تابوهات الجنس والسياسة والدين‏,‏ هناك حظر تصوير النساء إلا محجبات وفي وجود محرم‏,‏ وليس مسموحا بتصوير مشهد فيه رجل وامرأة وحدهما يتبادلان ـ مثلا ـ كلمات الحب التي تقوم عليها السينما المصرية كلها‏!‏
وفي ضوء هذه الممنوعات‏,‏ لك أن تتخيل حجم الموضوعات والأفكار التي لا يستطيع السينمائيون الإبرانيون تقديمها أو التعبير عنها‏..‏ ورغم ذلك يبدعون ويتألقون ويشاركون في كل المهرجانات الدولية ويفوزون بالجوائز‏..‏ كيف؟
في رأيي‏,‏ تتلخص الإجابة في كلمة واحدة‏:‏ الصدق‏..‏ فالسينمائيون الإيرانيون يقدمون موضوعاتهم ـ مهما كانت بسيطة ـ بصدق واقتناع كامل بضرورتها وجدواها‏..‏ في حين أن صناع أفلامنا لا يصدقون حرفا مما يقدمون‏,‏ بل يصنعون أفلامهم بما يتصورون أنه منطق السوق‏,‏ وعلي أساس ما يتخيلون أنه رغبة الجمهور‏..‏ والجمهور والمنطق معا منهم براء‏!‏
وإزاء هذا العجز‏,‏ تكونت لدي بعض السينمائيين المصريين ما يمكن تسميته عقدة السجادة الحمراء‏,‏ التي يسير عليها المشاركون والفائزون في المهرجانات الكبري‏,‏ خاصة كان والتي لا يسيرون هم عليها لغيابنا الدائم عن مثل هذه المهرجانات‏..‏ وكان الحل عندهم سهلا‏..‏ ويتلخص في أن يعلنوا بكل ثقة ـ ولا أريد أن أقول بجاحة ـ أن فيلمهم سيشارك في كان‏,‏ ويتقدموا للمشاركة في سوق الفيلم المقامة علي هامش المهرجان‏,‏ والمتاحة لجميع الأفلام والمسلسلات والبرامج التليفزيونية حول العالم من دون اختيار ولا اشتراط أي معايير فنية طالما أن شركة الإنتاج سددت قيمة الاشتراك في السوق‏..‏ وللتغلب علي العقدة‏,‏ يستأجر المنتج المصاب بها سجادة حمراء لكي يسير عليها هو وابطال فيلمه بعيدا عن المهرجان وضيوفه ومقاره الرسمية‏..‏ ولله في خلقه شئون‏!‏
 

السينما في عصر مبارك.. الحلقة الثالثة


السينما في عصر مبارك.. مشاهد وأحداث - 3
أعمال الجادين تواجه فرق التفاهة وتجار العشوائيات


** جيل الألفية الجديدة من السينمائيين تولى تشريح المجتمع في مرحلة شديدة التعقيد شهدت المزيد من الفساد السياسي والتفسخ الاجتماعي
** "هوجة" أفلام المناطق العشوائية خرجت أقبح منها ولم تفلح إلا في المتاجرة بمعاناة سكانها        

حلقات يكتبها:
 أسامة عبد الفتاح

واصل طوفان الهزل والتفاهة والابتذال اجتياح السينما المصرية خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، وظل سائدا حتى قيام ثورة 25 يناير 2011 المجيدة، التي أطاحت بنظام حسني مبارك.. وبالتوازي معه، حاول سينمائيون – جدد وقدامى – تقديم سينما حقيقية، ونجحوا في عدد قليل من الأفلام، صار من تحف وكلاسيكيات السينما المصرية، فيما جاءت أعمالهم الأخرى مشوهة، متأثرة بالرغبة في مسايرة الأفلام السائدة، سواء من حيث الموضوعات أو التكنيك أو النجوم المنتشرين.. كما شهد العقد ظهور "سينما العشوائيات"، التي قدمت رؤية سياحية لقبح المناطق العشوائية، فخرجت أقبح منها، ولم تفلح إلا في المتاجرة بمعاناة سكانها لتكديس الملايين في خزائن منتجيها، من دون تفكير في تخصيص جزء من هذه الملايين لحل مشكلات هذه العشوائيات.
مع بدايات القرن الحادي والعشرين، ظهر عدد كبير من المخرجين المتميزين، وواصل آخرون مسيرة تألقهم.. ففي عام 2000، عرض المخرج أسامة فوزي فيلمه الثاني "جنة الشياطين"، الذي كان امتدادا لسينما التسعينيات الذهنية، قبل أن يقدم – في 2004 – تحفته "بحب السيما"، وهو واحد من أفضل الأفلام المصرية خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة، وفي 2009 فيلمه "بالألوان الطبيعية"، الذي كان استمرارا لطرح قضايا العلاقة بين الإنسان وخالقه وبين الفن والدين، والتي سبق له تفجيرها في "بحب السيما".
وفي 2000 أيضا، قدم المخرج والسيناريست محمد أمين فيلمه الأول "فيلم ثقافي"، وبعد خمس سنوات عمله الثاني "ليلة سقوط بغداد"، وبعد خمس سنوات أخرى (العام الماضي) إنجازه الثالث "بنتين من مصر"، وكلها أفلام متميزة تحاول أن تكون مختلفة من حيث الموضوعات والمعالجة والتنفيذ..
ويضيق المجال هنا عن حصر جميع الأعمال السينمائية الجادة في هذا العقد بشكل إحصائي، لكن يجب التوقف عند تجارب مجموعة من الشباب الذين انطلقت مسيراتهم في بدايات الألفية الثالثة، وأبرزهم مروان حامد في "عمارة يعقوبيان" (2006) و"إبراهيم الأبيض" (2009)، وكاملة أبو ذكري في "ملك وكتابة" و"واحد صفر"، اللذين قدمتهما في نفس العامين على الترتيب، وسامح عبد العزيز في "كباريه" و"الفرح"، اللذين قدمهما في عامي 2008 و2009 على التوالي، وهالة خليل في "أحلى الأوقات" (2004) و"قص ولزق" (2006).
وهناك مخرجو الفيلم الجيد الواحد، سواء لأنهم لم يصنعوا غيره أو لأن إنتاجهم الآخر لا يرقى لمستواه، مثل عاطف حتاتة في "الأبواب المغلقة" (2001)، وهاني خليفة في "سهر الليالي" (2003)، ومحمد مصطفى في "أوقات فراغ" (2006)، ومحمد ياسين في "الوعد" (2008).
وبهذه الأفلام – وغيرها – واصل الجيل الجديد من السينمائيين تشريح المجتمع في مرحلة شديدة الصعوبة والتعقيد شهدت المزيد من الفساد السياسي والتفسخ الاجتماعي، الذي انعكس في ضعف الروابط الأسرية وارتفاع معدل الطلاق‏ والجريمة،‏ والتطورات النوعية التي طرأت علي الجرائم وجعلتها أكثر عنفا ودموية‏، وسط حالة عامة من اليأس والإحباط ـ خاصة في أوساط الشباب ـ لزيادة نسبة البطالة والارتفاع الجنوني غير المبرر للأسعار‏.‏. وهذا ـ في رأيي ـ هو الدور المأمول للسينمائيين‏:‏ التعبير عن المجتمع الذي يعيشون فيه ورفع الصوت بمشاكله في وجه المسئولين عنها دون محاولة البحث عن حلول‏، لأن ذلك ليس دور السينما‏، بعيدا عن التافهين والمبتذلين أصحاب الكوارث السينمائية، من نوع "خالتي فرنسا" و"عودة الندلة"،‏ التي لا تنتمي إلي فن السينما‏، بل إلي فن الغلاسة والاستظراف‏.
وفي المقابل، ظهرت – بدءا من 2007 – هوجة أفلام العشوائيات، أو الأفلام العشوائية، التي أثبتت أن السينما المصرية حالة مستعصية على الشفاء، وأنها - من أزمة إلى أزمة، ومن توليفة إلى توليفة - لا تتغير، ولن تتغير.. تختلف المعطيات لكن تظل النتائج واحدة.. وما إن تهب رياح التغيير حتى تسكن، وتتحول إلى هواء ثقيل فاسد يكبس على أنفاسنا ويفقدنا الأمل في أن تتطور هذه السينما وتلحق بنظيراتها في العالم.
لسنوات طويلة ظلت التوليفة التي يعتمد عليها معظم المنتجين المصريين - وهى مثل الخلطة التي تضعها ربة المنزل لإنجاح طعامها - تتكون من العناصر أو "التوابل" التالية: شاب وسيم يجيد تسبيل العيون، وفتاة قمورة تجيد تمثيل حالة الانكسار - وهما الحبيبان اللذان سيتزوجان في نهاية الفيلم بطبيعة الحال، وشرير يرفع حاجبيه وكل ملامحه طوال الفيلم ثم يصاب بدلدلة مفاجئة في المشهد الأخير، وراقصة لعوب، وكوميديان يلعب عادة دور صديق البطل.
وفى السنوات الأخيرة من العقد الأول في هذا القرن، ومع التحولات السياسية والاجتماعية المتلاحقة، خاصة المد الديني، الذي ما لبث أن تحول إلى تطرف، وتفشى الفقر، وانتشار المناطق العشوائية، ظهرت توليفة سينمائية جديدة، لا تحاول التعبير عن هذه التحولات وتوثيقها بقدر ما تسعى لاستغلالها في دغدغة مشاعر جمهور المشاهدين لتحقيق المكاسب المادية السريعة.. وتحقق لها ما أرادت لأن السوق السينمائية المصرية شديدة الهشاشة والميوعة، ولا يحكمها ضابط أو رابط، وتتحكم فيها مجموعة من أنصاف المتعلمين الذين لا يشغلهم سوى تكديس الملايين.
وتزامن مع نجاح التوليفة الجديدة، نجاح نوع أو نمط من الأفلام لم يكن منتشرا في السينما المصرية من قبل، وهو نوع يقوم على عدد كبير من الشخصيات تقسم البطولة فيما بينها، بحيث لا يكون هناك بطل أو بطلة مطلقة، ومن الممكن ألا تربط بين هذه الشخصيات علاقات مباشرة، وألا يجمعها سوى المكان أو الزمان الواحد.. كما يقوم على الدراما الأفقية المستعرضة، التي لا تقدم قصة تقليدية ذات بداية ووسط ونهاية، بل تكون أشبه ببقع لونية صغيرة تظل تتسع وتمتزج على الشاشة حتى تملأها، مكونة تشكيلا أو لوحة كبيرة من المفترض أن لها معنى، وقيمة.
ولا عيب إطلاقا في التوليفة والنوع الجديدين، العيب كل العيب في مجموعة الانتفاع السينمائي التي حولتهما إلى "باترون" تصنع منه عشرات النسخ المشوهة الممسوخة لكسب المزيد من الأموال، وهذا "الباترون" يتكون من: منطقة عشوائية - على الأقل فقيرة جدا، قصة حب محبطة ومحكوم عليها بالفشل بين اثنين كانا يحلمان بتغيير هذا الواقع، عالم سرى سفلى من تجارة المخدرات والأسلحة والأجساد، "تشكيلة" من التطرف الديني، ضابط شرطة فاسد، و"رجل كبير" يتحكم في كل شيء ويحرك الناس مثل الماريونت من دون أي "أمارة" أو مبرر درامي لهذه القدرات الخارقة.
وكان فيلم "عزبة آدم" (2009) أول مسمار في نعش هذه التوليفة، رغم أنه حاول أن يسير على "الباترون"، واستخدم كل العناصر والبهارات المطلوبة، لكن مشكلته أن صناعه كانوا قليلي الخبرة، فخرج مشوها ومرتبكا، ينعيهم هم وتوليفتهم.. وجاءت ثورة 25 يناير لتقضي على هذه النوعية نهائيا، بعد أن أسقطت فزاعة المحظورة وفزاعة سكان العشوائيات الذين سيخرجون من جحورهم ليدمروا كل شيء، تماما كما أسقطت عشرات الفزاعات والأوهام الأخرى.
وبالإضافة لفريق الهزل والتفاهة، ومجموعة الشباب الجاد، وتجار العشوائيات، شهد العقد استمرار عدد من كبار المخرجين في العمل، وتقديمهم عددا من الأفلام المتميزة، مثل داود عبد السيد في "مواطن ومخبر وحرامي" (2001) و"رسائل البحر" (2010)، ويسري نصر الله في "جنينة الأسماك" (2008) و"احكي يا شهرزاد" (2009)، ومحمد خان في "بنات وسط البلد" (2005) و"في شقة مصر الجديدة" (2007)، وغيرهم.

في الحلقة المقبلة:
- سر "عقدة السجادة".. والغياب المصري الدائم عن المهرجانات السينمائية الكبرى


السينما في عصر مبارك-الحلقة الثانية

السينما في عصر مبارك.. مشاهد وأحداث -2
هروب من الواقع المرير إلى العبث والتهريج
** السينمائيون يستجيرون من جحيم التسعينيات بالأفلام الذهنية.. ثم يصلون إلى مرحلة "الدادية" الكاملة


** أفلام "الإرهاب" تناولت القضية بسطحية مثل اللحى المستعارة التي يضعها الممثلون لأداء شخصيات المتطرفين


حلقات يكتبها:
أسامة عبد الفتاح


التسعينيات عقد مفصلي في تاريخ الوطن العربي، ومنطقة الشرق الأوسط، وفي فترة حكم الرئيس السابق حسني مبارك بشكل خاص، ليس لأنها تتوسط هذه الفترة، ولكن لأنها شهدت حماقة غزو العراق للكويت، ثم تدمير العراق نفسه على أيدي الولايات المتحدة وحلفائها، في مأساة غيرت وجه المنطقة وموازين القوى والمصالح فيها إلى الأبد.. كما شهدت موجة الإرهاب الدموية التي اجتاحت مصر ودولا أخرى خلال النصف الأول من العقد، وتركت جرحا غائرا ما زلنا جميعا نحاول علاجه.
وكان من الطبيعي أن ينعكس كل ذلك على السينما، التي سرعان ما بدأت تخلع عباءة "الواقعية"، التي كانت قد ارتدتها في الثمانينيات، لنفورها من الواقع المرير، وشرعت في اللجوء للترميز.. وربما لذلك لم تصنع سوى عدد قليل من الأفلام التي تتناول ظاهرة الإرهاب بشكل مباشر، ولم يبرز منها إلا ثلاثة فقط كلها من بطولة عادل إمام.. وربما كان هذا الأخير ـ وهو يزعم أن أفلامه تؤرخ لتاريخ مصر ـ يقصد تحديدا أفلامه التي تناولت ظاهرة الإرهاب، وأبرزها وأهمها علي الإطلاق "الإرهاب والكباب" لوحيد حامد وشريف عرفة‏، والذي يكمن بريقه في فكرته الرئيسية التي تتلخص في أن الظروف من الممكن أن تحول شخصا عاديا إلي إرهابي‏، وكذلك في نهايته التي يذوب فيها الإرهابي وسط الناس بمن فيهم من كان يتخذهم كرهائن‏.‏

وهناك "طيور الظلام" لنفس الثنائي‏،‏ والذي يساوي بين الفساد والتطرف الديني‏، ويقول‏ إن خطرهما واحد ونهايتهما واحدة‏..‏ كما قدم إمام فيلما أكثر مباشرة عن الإرهاب بعنوان "الإرهابي" للينين الرملي ونادر جلال‏، وهو يوضح كيف يمكن أن يعود الإرهابي إلى صوابه وإلى طبيعته إذا عاش في بيئة صحية طبيعية وسط أسرة من الأسوياء والمعتدلين‏.. وعيب هذا الفيلم يتمثل في نهايته الفجة التي تشبه أفلام الكارتون‏، حيث يتحول الإرهابي إلي شهيد ويتلقي عشرات الرصاصات من الشرطة والجماعة الإرهابية معا من دون أن يتأثر أو يتلوث بالدم‏، ويمشي شارعا كاملا حتى يصل إلي حبيبته ويموت بين ذراعيها‏!‏

ولم تقدم الأفلام الثلاثة رؤية واضحة أو حاسمة‏، ولم تقطع برأي أو موقف‏،‏ بل حرصت دائما علي المراوحة بين كل الآراء والمواقف‏، وعلي الموازنة بينها‏، حتى لا يغضب أحد‏، ‏بينما كانت هذه المرحلة ـ تسعينيات القرن الماضي ـ تتطلب اتخاذ المواقف الواضحة الحاسمة التي لا لبس ولا خلط فيها بين الجاني والضحية أو بين الفاعل والمفعول به‏‏.. ففي الأفلام الثلاثة هناك تعاطف ـ علي الأقل نسبي ـ مع شخصية الإرهابي باعتباره شخصا عاديا دفعته ظروفه والبيئة المحيطة به والضغوط المفروضة عليه إلي أن يتحول إلي إرهابي‏.. ولا غبار علي ذلك إذا كان سيتم ـ في المقابل ـ توضيح هذه الظروف واستعراض هذه البيئة وبيان تلك الضغوط وما ـ أو من ـ السبب فيها‏، لكن ذلك لم يحدث، بل تم تناول القضية بسطحية مثل اللحى المستعارة التي يضعها الممثلون لأداء شخصيات المتطرفين.‏
وهناك ـ في الأفلام الثلاثة ـ إحالة دائمة إلي شخصيات أو جهات عليا مسئولة عن النشاط الإرهابي، وتنتهي هذه الأفلام من دون أن نعرف هذه الشخصيات والجهات العليا‏، تماما مثل الأفلام البوليسية التقليدية التي لا نشاهد فيها سوى الرجل الثاني أو الثالث‏، ويظل الرجل الأول غامضا لا نرى منه سوى كتفه أو ظهره والدخان المتصاعد من سيجاره علي ضوء "الأباجورة" القوي‏.. ففي "طيور الظلام‏"،‏ يظل المحامي الإسلامي المتشدد (رياض الخولي) يأخذ التعليمات ويتحدث هاتفيا مع شخصية لا نعرفها ولا يقدر لنا حتى النهاية أن نعرفها‏..‏ وفي "الإرهابي" يحدث نفس الشيء مع قيادي الجماعة (أحمد راتب‏)،‏ حيث يأخذ تعليماته من مجهول‏، علي طريقة شخصية الفيديو الشهيرة البرادعي، وكأن قيادات الإرهاب إقليميا ودوليا "برادعي كبير" لا يعرفه أحد‏.
وباستثناء هذه الأفلام، وأعمال قدمها رواد واقعية الثمانينيات فيما يشبه القصور الذاتي، مثل "سوبر ماركت" و"ضد الحكومة" و"دماء على الأسفلت" و"ليلة ساخنة"، انعكس هروب السينمائيين المصريين من الواقع – خلال التسعينيات – في لجوئهم إلى السينما الذهنية، التي قام أغلبها على أعمال أدبية، وعلى ما يمكن تسميته بالواقعية السحرية، في أفلام مثل "كابوريا" و"الراعي والنساء" و"أرض الخوف" و"الكيت كات" و"عفاريت الأسفلت" والعديد من الأعمال الأخرى، أو على الفانتازيا، في أفلام مثل "الحب في الثلاجة".
كما انعكس ذلك الهروب في العودة إلى التاريخ بشكل مشوه وممسوخ، كما فعل يوسف شاهين في "المهاجر" و"المصير"، وفي الدق على أبواب الدجل والشعوذة في أفلام مثل "البيضة والحجر" و"عتبة الستات"، وفي النقل عن الأفلام الأمريكية بلا حرج لتقديم "أكشن" ضعيف ومتهافت في أعمال مثل "الباشا" و"الإمبراطور" و"شمس الزناتي".
ولم يكن الهروب من الواقع المرير – في مصر والوطن العربي – كافيا لتجنب آثاره السلبية على المشاهدين والسينمائيين معا، فحدث التحول الكبير الذي نقل الأمر من الضيق والزهق والعجز واللامبالاة إلى "الدادية" الكاملة.. والدادية حركة تمرد قامت في أعقاب الحرب العالمية الأولى ضد كل ما كان سائداً من أعراف أو تقاليد، وأخذت تنادي بعدم المبالاة، وبالتخليص الكامل من كل ما هو معروف من قيم.. واتجه فنانو هذه الحركة إلى جمع النفايات الملقاة في الشارع أو صناديق القمامة مثل قصاصات الجرائد أو قطع الأقمشة البالية أو علب الصفيح المهشمة واعتبارها هي الفن الذي ينبغي أن يسود.
ويهدف الداديون إلى مهاجمة القيم، وتخريب الجماليات، ومعاداة الذين يحترمون الفن والجمال والإبداع .. كما يهدفون إلى السخرية من الفن ذاته، وعرض كل ما هو قبيح وغريب وعابث وغير معقول.
وتقول فلسفتهم: لابد من خلق فن يناقض الفن ذاته، وأطلقوا على فنهم هذا اسم "ضد الفن" وأصبح شعارهم: كل شيء يساوي لا شيء.. إذن فلا شيء هو كل شيء.
وهكذا أصبحت كل مشاركة في العبث والتهريج، من دون أي سبب أو هدف سوى العبث والتهريج، دادية.. وهذا هو تفسيري الوحيد لطوفان الأفلام التافهة المبتذلة الذي اجتاح مصر بدءا من عام 1997، مع فيلم "إسماعيلية رايح جاي"، الذي حقق إيرادات خيالية – بمعايير هذا الوقت – بلغت 16 مليون جنيه، مما جعل رءوس المنتجين تدور، والمهزلة تستمر وتتسع وتكبر إلى أن عمت صناعة السينما كلها تقريبا، وإلى أن دخلت مصر القرن الحادي والعشرين، فيما كانت أفلامها تنتمي فكريا إلى العصور الوسطى.


في الحلقة المقبلة:
- أعمال الجيل الجديد من المخرجين الجادين تواجه فرق التفاهة وتجار العشوائيات


Thursday, December 29, 2011

السينما في عصر مبارك..مشاهد و أحداث-الحلقة الأولي


محاولات واقعية و"زعيم أوحد" مواز لزعيم القصر
** عقد الثمانينيات شهد صناعة عدد من التحف والكلاسيكيات.. وفي المقابل اشتعل الصراع على زعامة "السينما الجماهيرية" بين عادل إمام ونادية الجندي
** السينمائيون تجاوبوا مع الإشارات الإيجابية في بداية حكم مبارك ثم أدركوا بعد سنوات قليلة أنه ليس الحاكم الذي تخيلوه أو تمنوه
حلقات يكتبها:
 أسامة عبد الفتاح

سيكون من السهل على الباحثين – في جميع المجالات – دراسة عصر الرئيس السابق حسني مبارك، فقد دام نحو ثلاثين عاما (أكتوبر 1981 – فبراير 2011) مقسمة إلى ثلاثة عقود تتوافق بداياتها ونهاياتها تقريبا مع عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، والعقد الأول من القرن الحالي، مما يسهل الرصد والدراسة، وينسحب الأمر على السينما المصرية.
قبل عصر مبارك، في عقد السبعينيات من القرن العشرين، سادت أنواع محددة من الأفلام، أبرزها: أفلام حرب أكتوبر، ومعظمها ضعيف، ومصنوع على عجل، فيما عدا بعض الاستثناءات الأكثر نضجا مثل "أبناء الصمت"، والأفلام التي تنتقد سياسة الانفتاح الاقتصادي، وتلك التي تصفي حساب صناعها مع نظام عبد الناصر وتمد حبال الود مع نظام السادات، مثل "الكرنك".. وأخيرا أفلام المقاولات الهزلية، وهي بلا حصر، وبلا قيمة.
وبدأ مبارك فترة حكمه بإشارات اعتبرها المثقفون – ومنهم السينمائيون – إيجابية، ومنها الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإعلانه رغبته في ألا تزيد مدة حكمه عن فترتين، ورفضه النفاق والمنافقين، وانعكس التجاوب معه في تخلي السينما المصرية عن الهزل وتصفية الحسابات، ومحاولتها النزول إلى الواقع للتعبير عنه، فظهر ما سمي بعد ذلك – مع تحفظي شخصيا على التسمية – "الواقعية الجديدة"، وصعد نجم عدد من المخرجين المتميزين، سواء الذين بدأوا في الثمانينيات أو قبلها بسنوات قليلة، مثل عاطف الطيب ومحمد خان وداود عبد السيد وخيري بشارة وسمير سيف وغيرهم، مع استمرار يوسف شاهين وعدد من كبار المخرجين في العمل.
وهكذا شهد عقد الثمانينيات صناعة عدد من تحف وكلاسيكيات السينما المصرية، مثل "موعد على العشاء" و"سواق الأتوبيس" و"البريء" و"الطوق والإسورة" و"زوجة رجل مهم" وغيرها الكثير.. وفي المقابل اشتعل الصراع على زعامة ما يسمى بالسينما الجماهيرية بين عادل إمام ونادية الجندي، وسرعان ما حسمه الأول بذكائه، وانتباهه للتعامل مع رموز الواقعية الجديدة في أفلام مثل "الحريف" – وإن كان قد تبرأ منه فيما بعد – ومحاولته تقديم سينما جادة في أعمال مثل "حب في الزنزانة".
لكن مشكلة عادل إمام الرئيسية أن البعض اعتبروه زعيما، والمشكلة الأكبر انه ـ بمرور الوقت ـ بدأ يصدق، ويتعامل علي هذا الأساس، مؤكدا ـ مرة أخري ـ أن البطانة السيئة المحيطة بأي شخصية عامة قد يكون لها تأثير شديد الخطورة عليها، وقد ترشدها إلي الطريق الصحيحة تماما كما يمكن أن تضللها وتخدعها لتحقيق مصالح أعضاء البطانة الشخصية، وهم نوع من الناس يعيش علي بقايا الآخرين، ويصعد علي أكتافهم من دون أن يبالي بهدم هذه الأكتاف.
ومن المفهوم تماما أن يكون لأي فنان أو ممثل رأي في أحوال بلاده، ومواقف سياسية واجتماعية قائمة علي وجهة نظره فيما يجري حوله من أحداث وتطورات، فهذا من حقه تماما مثل أي مواطن آخر، بل أنه من المطلوب منه أن يدلي برأيه وان يحدد موقفه لان رأيه هذا ـ إذا كان ايجابيا أو صحيحا ـ قد يكون له دور في تشكيل الرأي العام بما يخدم الصالح العام.. لكن ليس من حقه ولا من واجبه علي الإطلاق أن يعتبر نفسه زعيما سياسيا أو اجتماعيا، أو أن يعتبره البعض كذلك فيصدقهم ويثق فيهم ويسلم نفسه لهم، ففي ذلك خروج علي حدود ومقتضيات وضعه كنجم يحبه الناس ويتابعون أعماله لا أقواله، ومبارياته في التمثيل مع زملائه، لا منازلاته وحروبه مع رجال الدين والسياسة والأعمال.
وقد بدأت المسألة مع عادل إمام بمسرحية اسمها الزعيم عرضت علي مسرح الهرم، وبمرور الوقت تحول هو إلي زعيم فعلي، وتحول المسرح إلي مسرح الزعيم.. وفي حديث تليفزيوني مع الإعلامية هالة سرحان، أذيع قبل نحو أربعة أعوام، قال إمام إن أفلامه تؤرخ لكل الأحداث التي مرت بها مصر خلال فترة عمله، وطالب من كانت تحاوره بمراجعة هذه الأفلام لكي تتأكد من صحة ما يقول، فسكتت منبهرة ولم ترد، ولعلها أرادت أن تجامله، فما قاله يحتاج إلي الرد والتعليق، لأن فيه مبالغة واضحة ومغالطة نسبية.
ففي بداية صعوده إلي منصة النجومية، لم تكن أفلام عادل إمام تؤرخ لأي شيء، وكان معظمها هزليا يخاطب أساسا الجمهور الذي كان قد صعد بدوره إلي قمة الهرم المجتمعي، وقوامه الرئيسي من الحرفيين الذين ساعدهم المال السهل ـ الذي كانوا يكسبونه من دون تعب ولا مؤهلات ـ علي الصعود الاجتماعي، وهذا الجمهور كان يريد فنا سهلا مثل المال الذي كان يكسبه، والأهم أنه لم يكن يملك الثقافة التي تؤهله لتلقي فن جاد وحقيقي لا يدغدغ مشاعره وغرائزه فقط، بل يسعي لتحريكه والتأثير فيه والسمو بهذه المشاعر والغرائز نحو آفاق أبعد وأرحب.. وتحت شعار "الجمهور عايز كده" كانت أفلام عادل إمام تلبي بامتياز الاحتياجات المزعومة لهذا الجمهور الجديد، من دون أي محاولة للتعميق أو الإجادة أو إضافة أبعاد جديدة للعمل الفني.. ويتضح ذلك بجلاء في أفلام مثل رجب وشعبان ورمضان التي لا أظن علي الإطلاق أنها تؤرخ لشيء، أو أن لها قيمة تذكر.
وفي المرحلة الوسطي من نجوميته، تغيرت اختيارات عادل إمام، وبدأ يقدم أفلاما أكثر عمقا وجدية وتماسكا مثل "أمهات في المنفى" و"حتى لا يطير الدخان" و"حب في الزنزانة" و"المشبوه"، لكن من المبالغة القول بأنها كانت تؤرخ لشيء، بل كانت أفلاما عادية تختلف عما سبقها في أنها حملت لمسات ميلودرامية لم تكن معهودة في أفلامه السابقة.. وربما كان ـ بقوله إن أفلامه تؤرخ لتاريخ مصر ـ يقصد تحديدا أفلامه التي تناولت ظاهرة الإرهاب الأسود التي عانت منها مصر في بدايات التسعينيات، ولنا مع هذه الأفلام عودة في موضع آخر من هذه الحلقات.
المهم أنه صار هناك "زعيم" للسينما مواز لزعيم القصر، وبدأ كلاهما يطرب للنفاق، ويحب المنافقين، ويلتصق بالكرسي، ويستعد للبقاء مدى الحياة.. وانطلقت صناعة "الزعيم الأوحد" في كل مجال وقطاع على أيدي البطانات المنتفعة، وعلى أساس أن الناس على دين ملوكهم، فأصبح هناك زعيم للإخراج، وآخر للنقد السينمائي، وثالث للسيناريو.. إلى آخره.
وكما تجاوبت السينما مع الإشارات الإيجابية لمبارك في بداية فترة حكمه، تجاوبت مع الإشارات والممارسات السلبية التي ظهرت في دائرة سلطته وتزايدت بمرور السنوات، وبدأ السينمائيون يدركون أنه ليس الحاكم الذي تخيلوه أو تمنوه.
في الحلقة المقبلة:
- السينمائيون يهربون من واقع التسعينيات المرير إلى السينما الذهنية.. ثم إلى العبث والتهريج