Thursday, December 29, 2011

السينما في عصر مبارك..مشاهد و أحداث-الحلقة الأولي


محاولات واقعية و"زعيم أوحد" مواز لزعيم القصر
** عقد الثمانينيات شهد صناعة عدد من التحف والكلاسيكيات.. وفي المقابل اشتعل الصراع على زعامة "السينما الجماهيرية" بين عادل إمام ونادية الجندي
** السينمائيون تجاوبوا مع الإشارات الإيجابية في بداية حكم مبارك ثم أدركوا بعد سنوات قليلة أنه ليس الحاكم الذي تخيلوه أو تمنوه
حلقات يكتبها:
 أسامة عبد الفتاح

سيكون من السهل على الباحثين – في جميع المجالات – دراسة عصر الرئيس السابق حسني مبارك، فقد دام نحو ثلاثين عاما (أكتوبر 1981 – فبراير 2011) مقسمة إلى ثلاثة عقود تتوافق بداياتها ونهاياتها تقريبا مع عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، والعقد الأول من القرن الحالي، مما يسهل الرصد والدراسة، وينسحب الأمر على السينما المصرية.
قبل عصر مبارك، في عقد السبعينيات من القرن العشرين، سادت أنواع محددة من الأفلام، أبرزها: أفلام حرب أكتوبر، ومعظمها ضعيف، ومصنوع على عجل، فيما عدا بعض الاستثناءات الأكثر نضجا مثل "أبناء الصمت"، والأفلام التي تنتقد سياسة الانفتاح الاقتصادي، وتلك التي تصفي حساب صناعها مع نظام عبد الناصر وتمد حبال الود مع نظام السادات، مثل "الكرنك".. وأخيرا أفلام المقاولات الهزلية، وهي بلا حصر، وبلا قيمة.
وبدأ مبارك فترة حكمه بإشارات اعتبرها المثقفون – ومنهم السينمائيون – إيجابية، ومنها الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإعلانه رغبته في ألا تزيد مدة حكمه عن فترتين، ورفضه النفاق والمنافقين، وانعكس التجاوب معه في تخلي السينما المصرية عن الهزل وتصفية الحسابات، ومحاولتها النزول إلى الواقع للتعبير عنه، فظهر ما سمي بعد ذلك – مع تحفظي شخصيا على التسمية – "الواقعية الجديدة"، وصعد نجم عدد من المخرجين المتميزين، سواء الذين بدأوا في الثمانينيات أو قبلها بسنوات قليلة، مثل عاطف الطيب ومحمد خان وداود عبد السيد وخيري بشارة وسمير سيف وغيرهم، مع استمرار يوسف شاهين وعدد من كبار المخرجين في العمل.
وهكذا شهد عقد الثمانينيات صناعة عدد من تحف وكلاسيكيات السينما المصرية، مثل "موعد على العشاء" و"سواق الأتوبيس" و"البريء" و"الطوق والإسورة" و"زوجة رجل مهم" وغيرها الكثير.. وفي المقابل اشتعل الصراع على زعامة ما يسمى بالسينما الجماهيرية بين عادل إمام ونادية الجندي، وسرعان ما حسمه الأول بذكائه، وانتباهه للتعامل مع رموز الواقعية الجديدة في أفلام مثل "الحريف" – وإن كان قد تبرأ منه فيما بعد – ومحاولته تقديم سينما جادة في أعمال مثل "حب في الزنزانة".
لكن مشكلة عادل إمام الرئيسية أن البعض اعتبروه زعيما، والمشكلة الأكبر انه ـ بمرور الوقت ـ بدأ يصدق، ويتعامل علي هذا الأساس، مؤكدا ـ مرة أخري ـ أن البطانة السيئة المحيطة بأي شخصية عامة قد يكون لها تأثير شديد الخطورة عليها، وقد ترشدها إلي الطريق الصحيحة تماما كما يمكن أن تضللها وتخدعها لتحقيق مصالح أعضاء البطانة الشخصية، وهم نوع من الناس يعيش علي بقايا الآخرين، ويصعد علي أكتافهم من دون أن يبالي بهدم هذه الأكتاف.
ومن المفهوم تماما أن يكون لأي فنان أو ممثل رأي في أحوال بلاده، ومواقف سياسية واجتماعية قائمة علي وجهة نظره فيما يجري حوله من أحداث وتطورات، فهذا من حقه تماما مثل أي مواطن آخر، بل أنه من المطلوب منه أن يدلي برأيه وان يحدد موقفه لان رأيه هذا ـ إذا كان ايجابيا أو صحيحا ـ قد يكون له دور في تشكيل الرأي العام بما يخدم الصالح العام.. لكن ليس من حقه ولا من واجبه علي الإطلاق أن يعتبر نفسه زعيما سياسيا أو اجتماعيا، أو أن يعتبره البعض كذلك فيصدقهم ويثق فيهم ويسلم نفسه لهم، ففي ذلك خروج علي حدود ومقتضيات وضعه كنجم يحبه الناس ويتابعون أعماله لا أقواله، ومبارياته في التمثيل مع زملائه، لا منازلاته وحروبه مع رجال الدين والسياسة والأعمال.
وقد بدأت المسألة مع عادل إمام بمسرحية اسمها الزعيم عرضت علي مسرح الهرم، وبمرور الوقت تحول هو إلي زعيم فعلي، وتحول المسرح إلي مسرح الزعيم.. وفي حديث تليفزيوني مع الإعلامية هالة سرحان، أذيع قبل نحو أربعة أعوام، قال إمام إن أفلامه تؤرخ لكل الأحداث التي مرت بها مصر خلال فترة عمله، وطالب من كانت تحاوره بمراجعة هذه الأفلام لكي تتأكد من صحة ما يقول، فسكتت منبهرة ولم ترد، ولعلها أرادت أن تجامله، فما قاله يحتاج إلي الرد والتعليق، لأن فيه مبالغة واضحة ومغالطة نسبية.
ففي بداية صعوده إلي منصة النجومية، لم تكن أفلام عادل إمام تؤرخ لأي شيء، وكان معظمها هزليا يخاطب أساسا الجمهور الذي كان قد صعد بدوره إلي قمة الهرم المجتمعي، وقوامه الرئيسي من الحرفيين الذين ساعدهم المال السهل ـ الذي كانوا يكسبونه من دون تعب ولا مؤهلات ـ علي الصعود الاجتماعي، وهذا الجمهور كان يريد فنا سهلا مثل المال الذي كان يكسبه، والأهم أنه لم يكن يملك الثقافة التي تؤهله لتلقي فن جاد وحقيقي لا يدغدغ مشاعره وغرائزه فقط، بل يسعي لتحريكه والتأثير فيه والسمو بهذه المشاعر والغرائز نحو آفاق أبعد وأرحب.. وتحت شعار "الجمهور عايز كده" كانت أفلام عادل إمام تلبي بامتياز الاحتياجات المزعومة لهذا الجمهور الجديد، من دون أي محاولة للتعميق أو الإجادة أو إضافة أبعاد جديدة للعمل الفني.. ويتضح ذلك بجلاء في أفلام مثل رجب وشعبان ورمضان التي لا أظن علي الإطلاق أنها تؤرخ لشيء، أو أن لها قيمة تذكر.
وفي المرحلة الوسطي من نجوميته، تغيرت اختيارات عادل إمام، وبدأ يقدم أفلاما أكثر عمقا وجدية وتماسكا مثل "أمهات في المنفى" و"حتى لا يطير الدخان" و"حب في الزنزانة" و"المشبوه"، لكن من المبالغة القول بأنها كانت تؤرخ لشيء، بل كانت أفلاما عادية تختلف عما سبقها في أنها حملت لمسات ميلودرامية لم تكن معهودة في أفلامه السابقة.. وربما كان ـ بقوله إن أفلامه تؤرخ لتاريخ مصر ـ يقصد تحديدا أفلامه التي تناولت ظاهرة الإرهاب الأسود التي عانت منها مصر في بدايات التسعينيات، ولنا مع هذه الأفلام عودة في موضع آخر من هذه الحلقات.
المهم أنه صار هناك "زعيم" للسينما مواز لزعيم القصر، وبدأ كلاهما يطرب للنفاق، ويحب المنافقين، ويلتصق بالكرسي، ويستعد للبقاء مدى الحياة.. وانطلقت صناعة "الزعيم الأوحد" في كل مجال وقطاع على أيدي البطانات المنتفعة، وعلى أساس أن الناس على دين ملوكهم، فأصبح هناك زعيم للإخراج، وآخر للنقد السينمائي، وثالث للسيناريو.. إلى آخره.
وكما تجاوبت السينما مع الإشارات الإيجابية لمبارك في بداية فترة حكمه، تجاوبت مع الإشارات والممارسات السلبية التي ظهرت في دائرة سلطته وتزايدت بمرور السنوات، وبدأ السينمائيون يدركون أنه ليس الحاكم الذي تخيلوه أو تمنوه.
في الحلقة المقبلة:
- السينمائيون يهربون من واقع التسعينيات المرير إلى السينما الذهنية.. ثم إلى العبث والتهريج

No comments:

Post a Comment