السينما في عصر مبارك.. مشاهد وأحداث - 5
حكاية السيطرة الخارجية الدائمة.. و"شهر العسل" القصير
إسماعيلية رايح جاي - صنع من باب غسيل الأموال ثم أحدث زلزالا هز السوق السينمائية وغير قواعدها
نعمة القنوات الفضائية على المنتجين تحولت إلى نقمة بعد وقوع الأزمة المالية العالمية
حلقات يكتبها:
أسامة عبد الفتاح
من بداية عصر الرئيس السابق حسني مبارك عام 1981، وحتى أواخر التسعينيات من القرن الماضي، سادت في السينما المصرية – بشكل عام – نظم الإنتاج والتوزيع التي كانت قد استقرت في بدايات السبعينيات بعد تصفية المؤسسة المصرية العامة للسينما، وتوقف الدولة عن الإنتاج المباشر، واقتصار دورها السينمائي على شركتين، إحداهما للاستوديوهات والأخرى للتوزيع ودور العرض.. وفي الحقيقة، لم يكن هناك ثمة توزيع أو دور عرض.. لم تكن الأفلام المصرية "الكبيرة" توزع بأكثر من عشر نسخ داخليا، وكانت دور العرض قليلة، تدور حول رقم 300 دار فقط منها أقل من ثلاثين دار عرض درجة أولى، ولم تكن مصر قد عرفت سينما المولات والمجمعات التي يصل فيها عدد الشاشات إلى خمس أو أكثر.
وفي ظل هذه الظروف، كانت الإيرادات الداخلية للفيلم المصري ضئيلة، وغير مجزية للمنتجين، وكان تحقيق مليون جنيه في شباك التذاكر حلما صعب المنال بالنسبة لمعظمهم.. وعندما وصلت إيرادات بعض أفلام عادل إمام ونادية الجندي إلى خمسة ملايين جنيه محليا، اعتبر البعض ذلك إنجازا كبيرا ينم عن جماهيرية ساحقة.
أما الجزء الأكبر من إيرادات الفيلم المصري، فكان يأتي من التوزيع الخارجي في الدول العربية.. ومن هنا جاءت سطوة الموزع الخارجي، اللبناني في الأغلب، والذي أصبح – بمرور الوقت، وبسلف التوزيع التي كان يعطيها للمنتجين – يتحكم في معظم عناصر الفيلم، خاصة اختيار الأبطال والموضوع و"التوابل" الجماهيرية المطلوب – من وجهة نظره – إضافتها لضمان الإقبال على الفيلم، مثل العري غير المبرر لممثلات مطلوبات بالاسم في السوق العربية، والإفيهات الجنسية المبتذلة، ووصلات الرقص البلدي الدخيلة على الدراما.. وهذا يفسر سيل الأفلام التافهة والمبتذلة الذي أغرق السينما المصرية خلال تلك الفترة.
وفي المقابل، قدم بعض المنتجين العديد من الأفلام الجيدة التي سبق الإشارة إليها في هذه الحلقات، من دون تقديم هذه التنازلات.. ولا يعني ذلك أنهم كانوا يخسرون، بل كانوا يحملون مسئولية أعمالهم لنجوم معروفين يتم بيع الأفلام بأسمائهم على أمل تحقيق الإيرادات الكبيرة، لكن ذلك لم يكن يحدث، وكان هؤلاء المنتجين يكتفون في النهاية باسترداد أموالهم، تحقيقا للمقولة الشهيرة: "لا يوجد فيلم يخسر".
وحدث التحول الكبير عام 1997، مع عرض فيلم "إسماعيلية رايح جاي" لكريم ضياء الدين، الذي حقق فجأة وبدون مقدمات إيرادات قياسية تجاوزت 16 مليون جنيه، في زلزال هز السوق السينمائية وغير قواعدها وأصول اللعب فيها بشكل جذري.. واستمدت المفاجأة قوتها من حقيقة أن الفيلم ضعيف جدا فنيا وإنتاجيا، ولم يكن منتجه يجد 50 ألف جنيه لاستكماله فباعه، وقيل – في تحقيقات رسمية وقضية معروفة صدر الحكم فيها بالإدانة – إن من اشتراه تحمس لذلك فقط لغسل أموال كان قد استولى عليها بشكل غير مشروع من البنك الأهلي خلال عملية إقامة معرض للسلع المعمرة للعاملين بهيئة النقل العام، فإذا به يربح كل هذه الملايين التي لم يكن – هو أو أي شخص آخر – يتوقعها.
وتلقى المنتجون والموزعون رسالة الجمهور المصري واستوعبوها على الفور، وأدركوا أن هذا الجمهور سئم نجوم السينما التقليديين، الذين كانوا قد استأثروا بالشاشة الكبيرة لأكثر من عشرين عاما، وأنه يريد التغيير، فدفعوا إلى مقدمة الصفوف بمجموعة من ممثلي الأدوار الكوميدية الثانية الذين أطلق عليهم البعض لقب "المضحكين الجدد"، ومنهم محمد هنيدي – الذي نسب الكثيرون له نجاح "إسماعيلية رايح جاي" رغم أن البطل كان المطرب محمد فؤاد – والراحل علاء ولي الدين، وأحمد آدم، وأشرف عبد الباقي، وغيرهم.. وبعد قليل، لحق بهم في القمة ممثلون خرجوا أيضا من عباءة الأفلام الكوميدية لكن اختاروا فيما بعد – أو اختار لهم غيرهم – ما يسمى بأدوار "الأكشن"، مثل أحمد السقا وكريم عبد العزيز.
وتوالى، في بدايات القرن الحادي والعشرين، ظهور "نجوم الشباك" في الفريقين، فظهر في الفريق الكوميدي محمد سعد وأحمد حلمي وهاني رمزي وأحمد رزق وأحمد عيد وغيرهم، وكان آخرهم أحمد مكي، مع استمرار عادل إمام في العمل.. وظهر في فريق "الأكشن" مصطفى شعبان وأحمد عز ومحمد رجب وغيرهما.. وتوالى بالتالي حصد الإيرادات بالملايين من التوزيع الداخلي، لتعيش السينما المصرية "شهر عسل" قصيرا (لم يتجاوز عدة سنوات) كان اعتمادها الرئيسي خلاله، ربما لأول مرة منذ بدايتها، على الإيرادات الداخلية، وتحررت خلاله، ربما لأول مرة أيضا، من سطوة الموزع الخارجي أو أي طرف خارجي آخر.
ولم يستمر شهر العسل طويلا، حيث اجتمعت عدة أسباب على إنهائه، أهمها انتشار القنوات الفضائية – العربية والمصرية – المتخصصة في عرض الأفلام وغيرها، والتي أصبحت، في وقت لاحق، طرفا خارجيا جديدا يتحكم في السينما المصرية، أو على الأقل يلعب دورا بارزا في لعبة تحالفاتها وتكتلاتها ويؤثر على حسابات الربح والخسارة فيها.
كانت القنوات الفضائية، التي بدأ انتشارها الكبير عام 2003، نعمة ثم تحولت إلى نقمة منذ بدء الأزمة المالية العالمية في سبتمبر 2008، ولكي يتضح كيف حدث ذلك، لابد من التوقف قليلا عند آليات الإنتاج التي سادت في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ السينما المصرية.
فور انتشارها واشتعال المنافسة فيما بينها، أصاب قنوات الأفلام الفضائية ما يمكن تسميته "نهم" شراء الأفلام المصرية، لكي تملأ ساعات إرسالها وتحقق كل منها السبق علي حساب الأخرى، مما رفع أسعار هذه الأفلام بشكل جنوني، وجعل النجوم المطلوبين في سوق هذه القنوات يتدللون علي المنتجين ويغالون في طلباتهم.. ولا أقصد الأجر فقط, بل أيضا المطالب الخاصة بالعمل مع فنانين وفنيين بعينهم، مثل ممثلي الأدوار المساعدة ومديري التصوير والمونتيرين، فضلا عن المخرجين بالطبع.. إلي درجة أن بعضهم كان يشترط العمل مع عامل كلاكيت بعينه!
وأدي ذلك إلي رفع أجور هؤلاء الفنانين والفنيين بدورهم، وإلي زيادة ميزانيات الأفلام بشكل عام، وكان المنتجون يدفعون عن طيب خاطر، لأنهم لم يكونوا يدفعون من جيوبهم، بل من جيوب القنوات الفضائية، وكانوا متسامحين مع طلبات المخرجين الخاصة بزيادة علب الأفلام الخام أو زيادة عدد أسابيع التصوير.. وهكذا بدأنا نسمع عن ميزانيات لم تكن السينما المصرية قد عرفتها من قبل، وصلت إلي أكثر من عشرين مليون جنيه.
كانت السينما قد انتعشت في العصر الفضائي، وتضخمت ثروات المنتجين والنجوم، كما ارتفعت أجور الجميع، بمن فيهم كتاب السيناريو الذين كانوا مظلومين في الماضي، فإذا بأجور عدد منهم تصل إلي مليون جنيه.
كانت "الأشيا معدن" كما يقولون، حتى وقعت الأزمة المالية العالمية، ولنا معها حديث آخر.
في الحلقة المقبلة:
الأزمة المالية.. من الشركات العالمية إلى الخليج إلى قلب السينما المصرية
No comments:
Post a Comment