Friday, December 30, 2011

السينما في عصر مبارك.. الحلقة الثالثة


السينما في عصر مبارك.. مشاهد وأحداث - 3
أعمال الجادين تواجه فرق التفاهة وتجار العشوائيات


** جيل الألفية الجديدة من السينمائيين تولى تشريح المجتمع في مرحلة شديدة التعقيد شهدت المزيد من الفساد السياسي والتفسخ الاجتماعي
** "هوجة" أفلام المناطق العشوائية خرجت أقبح منها ولم تفلح إلا في المتاجرة بمعاناة سكانها        

حلقات يكتبها:
 أسامة عبد الفتاح

واصل طوفان الهزل والتفاهة والابتذال اجتياح السينما المصرية خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، وظل سائدا حتى قيام ثورة 25 يناير 2011 المجيدة، التي أطاحت بنظام حسني مبارك.. وبالتوازي معه، حاول سينمائيون – جدد وقدامى – تقديم سينما حقيقية، ونجحوا في عدد قليل من الأفلام، صار من تحف وكلاسيكيات السينما المصرية، فيما جاءت أعمالهم الأخرى مشوهة، متأثرة بالرغبة في مسايرة الأفلام السائدة، سواء من حيث الموضوعات أو التكنيك أو النجوم المنتشرين.. كما شهد العقد ظهور "سينما العشوائيات"، التي قدمت رؤية سياحية لقبح المناطق العشوائية، فخرجت أقبح منها، ولم تفلح إلا في المتاجرة بمعاناة سكانها لتكديس الملايين في خزائن منتجيها، من دون تفكير في تخصيص جزء من هذه الملايين لحل مشكلات هذه العشوائيات.
مع بدايات القرن الحادي والعشرين، ظهر عدد كبير من المخرجين المتميزين، وواصل آخرون مسيرة تألقهم.. ففي عام 2000، عرض المخرج أسامة فوزي فيلمه الثاني "جنة الشياطين"، الذي كان امتدادا لسينما التسعينيات الذهنية، قبل أن يقدم – في 2004 – تحفته "بحب السيما"، وهو واحد من أفضل الأفلام المصرية خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة، وفي 2009 فيلمه "بالألوان الطبيعية"، الذي كان استمرارا لطرح قضايا العلاقة بين الإنسان وخالقه وبين الفن والدين، والتي سبق له تفجيرها في "بحب السيما".
وفي 2000 أيضا، قدم المخرج والسيناريست محمد أمين فيلمه الأول "فيلم ثقافي"، وبعد خمس سنوات عمله الثاني "ليلة سقوط بغداد"، وبعد خمس سنوات أخرى (العام الماضي) إنجازه الثالث "بنتين من مصر"، وكلها أفلام متميزة تحاول أن تكون مختلفة من حيث الموضوعات والمعالجة والتنفيذ..
ويضيق المجال هنا عن حصر جميع الأعمال السينمائية الجادة في هذا العقد بشكل إحصائي، لكن يجب التوقف عند تجارب مجموعة من الشباب الذين انطلقت مسيراتهم في بدايات الألفية الثالثة، وأبرزهم مروان حامد في "عمارة يعقوبيان" (2006) و"إبراهيم الأبيض" (2009)، وكاملة أبو ذكري في "ملك وكتابة" و"واحد صفر"، اللذين قدمتهما في نفس العامين على الترتيب، وسامح عبد العزيز في "كباريه" و"الفرح"، اللذين قدمهما في عامي 2008 و2009 على التوالي، وهالة خليل في "أحلى الأوقات" (2004) و"قص ولزق" (2006).
وهناك مخرجو الفيلم الجيد الواحد، سواء لأنهم لم يصنعوا غيره أو لأن إنتاجهم الآخر لا يرقى لمستواه، مثل عاطف حتاتة في "الأبواب المغلقة" (2001)، وهاني خليفة في "سهر الليالي" (2003)، ومحمد مصطفى في "أوقات فراغ" (2006)، ومحمد ياسين في "الوعد" (2008).
وبهذه الأفلام – وغيرها – واصل الجيل الجديد من السينمائيين تشريح المجتمع في مرحلة شديدة الصعوبة والتعقيد شهدت المزيد من الفساد السياسي والتفسخ الاجتماعي، الذي انعكس في ضعف الروابط الأسرية وارتفاع معدل الطلاق‏ والجريمة،‏ والتطورات النوعية التي طرأت علي الجرائم وجعلتها أكثر عنفا ودموية‏، وسط حالة عامة من اليأس والإحباط ـ خاصة في أوساط الشباب ـ لزيادة نسبة البطالة والارتفاع الجنوني غير المبرر للأسعار‏.‏. وهذا ـ في رأيي ـ هو الدور المأمول للسينمائيين‏:‏ التعبير عن المجتمع الذي يعيشون فيه ورفع الصوت بمشاكله في وجه المسئولين عنها دون محاولة البحث عن حلول‏، لأن ذلك ليس دور السينما‏، بعيدا عن التافهين والمبتذلين أصحاب الكوارث السينمائية، من نوع "خالتي فرنسا" و"عودة الندلة"،‏ التي لا تنتمي إلي فن السينما‏، بل إلي فن الغلاسة والاستظراف‏.
وفي المقابل، ظهرت – بدءا من 2007 – هوجة أفلام العشوائيات، أو الأفلام العشوائية، التي أثبتت أن السينما المصرية حالة مستعصية على الشفاء، وأنها - من أزمة إلى أزمة، ومن توليفة إلى توليفة - لا تتغير، ولن تتغير.. تختلف المعطيات لكن تظل النتائج واحدة.. وما إن تهب رياح التغيير حتى تسكن، وتتحول إلى هواء ثقيل فاسد يكبس على أنفاسنا ويفقدنا الأمل في أن تتطور هذه السينما وتلحق بنظيراتها في العالم.
لسنوات طويلة ظلت التوليفة التي يعتمد عليها معظم المنتجين المصريين - وهى مثل الخلطة التي تضعها ربة المنزل لإنجاح طعامها - تتكون من العناصر أو "التوابل" التالية: شاب وسيم يجيد تسبيل العيون، وفتاة قمورة تجيد تمثيل حالة الانكسار - وهما الحبيبان اللذان سيتزوجان في نهاية الفيلم بطبيعة الحال، وشرير يرفع حاجبيه وكل ملامحه طوال الفيلم ثم يصاب بدلدلة مفاجئة في المشهد الأخير، وراقصة لعوب، وكوميديان يلعب عادة دور صديق البطل.
وفى السنوات الأخيرة من العقد الأول في هذا القرن، ومع التحولات السياسية والاجتماعية المتلاحقة، خاصة المد الديني، الذي ما لبث أن تحول إلى تطرف، وتفشى الفقر، وانتشار المناطق العشوائية، ظهرت توليفة سينمائية جديدة، لا تحاول التعبير عن هذه التحولات وتوثيقها بقدر ما تسعى لاستغلالها في دغدغة مشاعر جمهور المشاهدين لتحقيق المكاسب المادية السريعة.. وتحقق لها ما أرادت لأن السوق السينمائية المصرية شديدة الهشاشة والميوعة، ولا يحكمها ضابط أو رابط، وتتحكم فيها مجموعة من أنصاف المتعلمين الذين لا يشغلهم سوى تكديس الملايين.
وتزامن مع نجاح التوليفة الجديدة، نجاح نوع أو نمط من الأفلام لم يكن منتشرا في السينما المصرية من قبل، وهو نوع يقوم على عدد كبير من الشخصيات تقسم البطولة فيما بينها، بحيث لا يكون هناك بطل أو بطلة مطلقة، ومن الممكن ألا تربط بين هذه الشخصيات علاقات مباشرة، وألا يجمعها سوى المكان أو الزمان الواحد.. كما يقوم على الدراما الأفقية المستعرضة، التي لا تقدم قصة تقليدية ذات بداية ووسط ونهاية، بل تكون أشبه ببقع لونية صغيرة تظل تتسع وتمتزج على الشاشة حتى تملأها، مكونة تشكيلا أو لوحة كبيرة من المفترض أن لها معنى، وقيمة.
ولا عيب إطلاقا في التوليفة والنوع الجديدين، العيب كل العيب في مجموعة الانتفاع السينمائي التي حولتهما إلى "باترون" تصنع منه عشرات النسخ المشوهة الممسوخة لكسب المزيد من الأموال، وهذا "الباترون" يتكون من: منطقة عشوائية - على الأقل فقيرة جدا، قصة حب محبطة ومحكوم عليها بالفشل بين اثنين كانا يحلمان بتغيير هذا الواقع، عالم سرى سفلى من تجارة المخدرات والأسلحة والأجساد، "تشكيلة" من التطرف الديني، ضابط شرطة فاسد، و"رجل كبير" يتحكم في كل شيء ويحرك الناس مثل الماريونت من دون أي "أمارة" أو مبرر درامي لهذه القدرات الخارقة.
وكان فيلم "عزبة آدم" (2009) أول مسمار في نعش هذه التوليفة، رغم أنه حاول أن يسير على "الباترون"، واستخدم كل العناصر والبهارات المطلوبة، لكن مشكلته أن صناعه كانوا قليلي الخبرة، فخرج مشوها ومرتبكا، ينعيهم هم وتوليفتهم.. وجاءت ثورة 25 يناير لتقضي على هذه النوعية نهائيا، بعد أن أسقطت فزاعة المحظورة وفزاعة سكان العشوائيات الذين سيخرجون من جحورهم ليدمروا كل شيء، تماما كما أسقطت عشرات الفزاعات والأوهام الأخرى.
وبالإضافة لفريق الهزل والتفاهة، ومجموعة الشباب الجاد، وتجار العشوائيات، شهد العقد استمرار عدد من كبار المخرجين في العمل، وتقديمهم عددا من الأفلام المتميزة، مثل داود عبد السيد في "مواطن ومخبر وحرامي" (2001) و"رسائل البحر" (2010)، ويسري نصر الله في "جنينة الأسماك" (2008) و"احكي يا شهرزاد" (2009)، ومحمد خان في "بنات وسط البلد" (2005) و"في شقة مصر الجديدة" (2007)، وغيرهم.

في الحلقة المقبلة:
- سر "عقدة السجادة".. والغياب المصري الدائم عن المهرجانات السينمائية الكبرى


No comments:

Post a Comment