Wednesday, February 29, 2012

مقالي عن "المسافر" في "القاهرة" 5 أكتوبر 2011

أسامة عبد الفتاح يكتب:
"المسافر".. تذكرة بورسعيد لا تصلح للسفر إلى الكون
** خيال المخرج وأحلامه أكبر مما خرج عليه الفيلم.. والفكرة أكبر من السيناريو.. والميزانية أكبر من مستوى الإنتاج
** خفة أحمد ماهر انتقلت بالعدوى إلى عمر الشريف في أدائه الشخصية.. ووقع خالد النبوي في فخ تقليدها
سافر فيلم "المسافر" كثيرا قبل أن يعود إلى أرض الوطن ليشاهده أخيرا الجمهور المصري تجاريا، بعد عامين كاملين من إنتاجه ظل خلالهما يجوب المهرجانات الدولية، ليكون المصريون آخر من شاهدوه في العالم رغم أنه أنتج بأموال الضرائب التي يدفعونها، فهو أول إنتاج للدولة – ممثلة في وزارة الثقافة – منذ عام 1971، تاريخ تصفية المؤسسة المصرية العامة للسينما.. وبذلك يصبح أول فيلم في تاريخ السينما العالمية يكون منتجه آخر – وليس أول – من يشاهده.. كما أنه أول فيلم في تاريخ السينما المصرية يعرض في مصر بعد عامين من إنتاجه، حيث أنتج عام 2009 ولم يبدأ عرضه إلا الشهر الماضي.
طالت غربة "المسافر"، وكانت النتيجة أنه بدا قديما حين بدأ عرضه في وطنه.. وعلى سبيل المثال، يقدم التتر سيرين عبد النور على أنها تظهر في السينما لأول مرة، في حين أنها قدمت العديد من الأعمال أثناء غيابه الطويل، وهو ما أثار تساؤلات عدد ممن شاهدوا الفيلم معي في القاعة، وكانوا في حدود العشرين.. كما عاد الفيلم إلى مصر منهكا، فاقدا 20 دقيقة من مدة عرضه حذفها مخرجه أحمد ماهر، بعد الانتقادات الحادة التي وجهت إليه من النقاد والجماهير – وبطله عمر الشريف نفسه – فور عرضه في مسابقة فينيسيا 2009، واتهامه بأنه ممل، ويصيب المشاهد بالضجر.
طردت كل هذه المعلومات والأفكار المسبقة من رأسي، وجلست إلى مقعدي في الصالة وأنا عاقد العزم على التعامل بأمانة مع الشريط السينمائي المعروض أمامي، بغض النظر عما أحاط به من جدل.. كما حرصت على مراعاة نصيحة ناقد سينمائي كبير طالب الجميع – نقادا وجماهير – باعتبار الفيلم "غير واقعي"، ودعا إلى عدم تطبيق قواعد التلقي التقليدية عليه.. وتجاهلت، بل تناسيت تماما، حقيقة أن هذا الناقد كان أحد أعضاء اللجنة التي شكلها وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني – وكافأها بسخاء – لتقييم السيناريو، واعتمد على تقريرها في اتخاذ قرار إنتاج الفيلم.
تمجيد وتهليل
وكان التقرير ينص – بالحرف الواحد – على أن "السيناريو ساحر، ومن أفضل ما كتب في تاريخ السينما المصرية، وسيعيد هذه السينما إلى أمجادها في المحافل الدولية".. وإذا أضفت إلى ذلك أن ميزانية الفيلم كانت محددة بتسعة ملايين جنيه فقط، ووصلت إلى نحو 22 مليونا بفضل – أو بسبب – هذا التقرير وغيره من مظاهر التمجيد والتهليل غير المبررة للسيناريو، لعرفت لماذا يوجه المخرج الشكر إلى هذا الناقد في نهاية الفيلم!
الشعور الذي يسيطر عليك وأنت تشاهد "المسافر"، ويستمر معك بعد إتمام المشاهدة، أن كل ما يتعلق به – بدءا بأحلام وتخيلات المخرج / المؤلف، وانتهاء بالتنفيذ بهذه الميزانية الضخمة – أكبر وأهم مما شاهدناه بالفعل على الشاشة.. فالإنتاج فقير رغم هذه الميزانية، ومؤلف الفيلم ومخرجه يبدو كأنه اشترى تذكرة إلى بورسعيد، المحطة الأولى في رحلته مع بطله، وأراد السفر بها إلى الكون كله، حيث الأسئلة الكوزموبوليتانية الفلسفية عن الموت والحياة والميلاد والعلاقات الإنسانية المتشابكة، وكانت النتيجة الطبيعية أن المخرج تاه وتاه معه المشاهد!
أراد المخرج، في أحلامه وتخيلاته، أن يطرح هذه القضايا الفلسفية في إطار فانتازي لا يتقيد بالواقع، وانتهى به الأمر إلى الانخراط في بحث قضية سطحية قديمة هي اختلاط الأنساب، في إطار شديد السذاجة والتفاهة هو تطور شكل "الأنف" عبر الأجيال.. أراد عمل فيلم ذهني ينتمي لسينما المؤلف عبر سيناريو أدبي شاعري، فإذا بالسيناريو يخرج شديد الضعف والتهافت والتفكك، وإذا به يفشل حتى في التعبير عن الفكرة المباشرة التي يقوم عليها الفيلم، والتي تتلخص في القيام برحلة عبر الزمن من خلال التوقف عند ثلاثة أيام في حياة موظف التلغراف "حسن" (عمر الشريف في مرحلة الشيخوخة وخالد النبوي في مرحلتي الشباب والكهولة)، تقع في خريف سنوات 1948 و1973 و2001، حيث يحول البناء الدرامي المختل هذه التواريخ المهمة، التي ترمز لأحداث محلية ودولية كبرى لا تخفى على أحد، إلى أرقام جوفاء على الشاشة فارغة من أي معنى أو مضمون.
قانون الفانتازيا
ولا أقصد أن يسرد الفيلم وقائع هذه الأحداث ويتحول إلى فيلم تاريخي، بل أن يكون هناك أي مبرر أو سبب لوضع هذه التواريخ بالتحديد على أجزاء الفيلم الثلاثة، لكن ذلك لم يحدث، لا هو ولا غيره، بل أغرقنا الفيلم في تفريعات ليس لها علاقة بموضوعه المزعوم، انشغل خلالها أحمد ماهر بالشكل على حساب المضمون، وعلى حساب أي منطق، حتى منطق الفانتازيا.. وهنا يجب التوقف قليلا لوضع النقاط فوق الحروف، فاستخدام أسلوب الفانتازيا لا يعني أن يفعل المخرج ما يعن له وما يخطر على باله من دون أي منطق أو قانون أو قاعدة، بل أن يضع هدفا لفانتازيا فيلمه، ومنطقا يتسق ويتفق مع دراما العمل.. لكن ما دامت هذه الدراما مختلة، فمن الطبيعي أن تخرج الفانتازيا سقيمة، مثل طائر يريد عبور البحر بأجنحة مكسورة.
ليس من المعقول مثلا أن تكون هناك مقابر على البحر مباشرة، على بعد خطوات قليلة من الأمواج، فالأطفال يعرفون أن الحفر في مثل هذا المكان معناه الوصول إلى الماء بعد ضربتي معول، ودفن الجثث عائمة.. وإذا قال لي أحد أن هذه هي الفانتازيا، سأرد بأنها تعارضت للأسف مع دراما المشهد نفسه، الذي يشمل بالفعل حفر أحد القبور من دون أن يظهر ماء البحر، وهذا هو بالضبط ما قصدته بأن تكون الفانتازيا في خدمة الدراما.. لكن المشكلة أن المخرج لا يريد أن يخدم الدراما، بل أن يحقق تخيلاته وأحلامه الشكلية، مثل الحمام الأبيض الذي أطلقه في شقة البطل بالتصوير البطيء وكأننا إزاء فيديو كليب لإليسا، ومثل إخراج حفيد البطل المزعوم (شريف رمزي) من المستشفى بسرير غرفة العمليات.. ومن الممكن أن يكون إصرار الجد على إخراجه وهو تحت تأثير البنج، ورفضه أن يجري عملية تجميل الأنف، فكرة درامية جيدة.. أما خروجه بسرير المستشفى، والسماح له بذلك، فقمة عبودية الشكل على حساب الموضوع.
أما أخطر عيوب السيناريو، وبالتالي الفيلم، فهو التعامل بخفة وسطحية مع الشخصية الرئيسية، التي ينتهي الفيلم من دون أن نتعاطف معها، ومن دون أن نعرف عنها شيئا، رغم وجودها الدائم على الشاشة من أول إلى آخر مشهد.. فلم تكن هناك أي محاولة للتعمق في الشخصية وإبراز خلفياتها وأبعادها المختلفة بما يسمح بتبرير تصرفاتها.. وللأسف انتقلت هذه الخفة بالعدوى – وربما بالتوجيهات – إلى عمر الشريف في أدائه الشخصية، فجاء مثيرا للشفقة والضحك، حيث أدى العديد من المشاهد بطريقة إسماعيل ياسين في أفلامه الهزلية.. وللأسف أيضا، انتقلت الخفة – بالتقليد هذه المرة – إلى خالد النبوي، الذي أصر على تقليد مشية وطريقة كلام عمر الشريف رغم اختلاف عمريهما، مما دعا الأخير إلى وصفه بأنه "أسوأ ممثل في العالم"!
لم يبرز من الفيلم سوى الفريق التقني، في التصوير والمونتاج والموسيقى والميكساج، وإن كنت قد انزعجت من لجوء المونتير تامر عزت – ربما بتوجيهات المخرج – إلى القطع بتسويد الشاشة في عدة مشاهد رغم عدم تغيير المكان أو الزمان.. كما كان مشهد سقوط البطل من كوبري إمبابة إلى النيل – في النهاية – ضعيف تقنيا، وتم تنفيذه بطريقة شديدة السوء والركاكة

No comments:

Post a Comment