Monday, April 2, 2012


أسامة عبد الفتاح يكتب:

غزوة "السيدة نفيسة".. هجمة جديدة على الإبداع

** الأوقاف تمنع تصوير فيلم "فرش وغطا" بالمسجد بعد أيام من طرد فريق مسلسل "ذات" من جامعة عين شمس

** علماء الأزهر يؤكدون خطأ الوزارة ويعلنون أن حرية الإبداع مكفولة في الإسلام وأن منع التصوير اعتداء عليها

ما زالت غزوات تيار التأسلم السياسي مستمرة، ويبدو أنها لن تتوقف حتى تحقيق أهداف تغيير طبيعة مصر الليبرالية المتنوعة، وإقامة دولة ملالي متأسلمة على غرار إيران وأفغانستان، وفرض ثقافة الخوف والجهل والغيبيات على المصريين.. ومن المفهوم تماما أن تتركز هذه الغزوات على الفن والإبداع، وحرية الرأي والتعبير بشكل عام، فهي الوحيدة القادرة على تنوير الناس، وتبصيرهم بالحقائق، وإفاقتهم من غيبوبة الدجل والشعوذة والدروشة.

هكذا شهدنا في الفترة الأخيرة العديد من العلامات والبوادر التي تنذر بإقامة محاكم تفتيش في مصر لكل من يخرج عن خط التأسلم المرسوم سلفا بعناية من قبل تنظيمات داخلية تدعمها قوى خارجية، مثل "غزوة القضية" التي أسفرت عن الحكم الذي قضت به إحدى محاكم القاهرة في الثاني من فبراير الماضي بحبس الفنان عادل إمام ثلاثة أشهر وتغريمه ألف جنيه بعد أن أدانته ب "الإساءة إلى الإسلام" في أكثر من عمل سينمائي ومسرحي، ومثل "غزوة المسلسل"، التي شنها المتأسلمون بعد هذا التاريخ بستة أيام فقط، حين أقدمت إدارة كلية الهندسة بجامعة عين شمس على طرد فريق عمل مسلسل "ذات" من الجامعة بسبب اعتراض طلاب متشددين على "الملابس القصيرة" للممثلات!



أما أحدث الغزوات، فيمكن تسميتها "غزوة السيدة نفيسة"، حيث منعت وزارة الأوقاف تصوير بعض مشاهد فيلم "فرش وغطا" بجامع السيدة نفيسة، بل أعلن أحد موظفيها منع التصوير في المساجد بشكل عام، رغم أن صناع الفيلم استخرجوا كافة التصاريح اللازمة، كما يوضح مخرجه أحمد عبد الله - في شهادة نشرها على موقعه الإلكتروني - قائلا: "كعادة أي فيلم سينمائي، توجب علينا الحصول على موافقة الرقابة على المصنفات الفنية وإجازتها لنص السيناريو المزمع تصويره تحت عنوان مؤقت (فرش وغطا)، وبناء عليه توجهنا بالسيناريو النهائي للهيئة العامة للرقابة على المصنفات الفنية وتمت إجازة النص من قبلهم بتاريخ ٢٣ يناير ٢٠١٢، ومن ثم فقد تم الحصول على موافقة وزارة الداخلية - التي اطلعت على النص أيضا - ليتسنى لنا التصوير في شوارع القاهرة.. وهكذا فقد استوفى السيناريو كافة ما يلزم من تصريحات من كل الجهات المعنية التي وافقت على تصوير الفيلم ومحتواه بما فيها نقابتا المهن السينمائية والتمثيلية".

تحفظ كامل



وأتفق مع عبد الله تماما في تحفظه الكامل على سلطة الرقابة بشكلها الحالي، وعلى لزوم موافقة الداخلية على تصوير كل فيلم، ومطالبته بأن ينتهي دور الرقابة المسبقة على النصوص والأفكار، وأن يصبح دور الرقابة محصورا في الموافقة على العروض العامة.. ورغم ذلك التحفظ، فقد آثر المخرج وباقي صناع الفيلم اتخاذ المسلك التقليدي المعتاد حتى يأتي وقت اتخاذ موقف جماعي في اتجاه تغيير شكل منظومة الرقابة وسلطة الداخلية، وحصلوا على التصاريح كاملة بلا نقصان للشروع في التصوير.

الفيلم يؤرخ لثلاثة أيام من حياة سجين يهرب من محبسه، و يتحرك البطل (الذي يؤدي دوره الممثل آسر ياسين) خلال هذه الفترة بين عدد من المواقع في القاهرة، ويحدث في القصة أن يبيت ليلته الأولى في أحد المساجد ذات الأضرحة، وبالتالي كان من اللازم أخذ موافقة وزارة الأوقاف، وهي موافقة روتينية اعتادت الوزارة منحها للأفلام التي يتم تصوير أجزاء منها بداخل مساجد، ويتم ذلك بتقديم سيناريو الفيلم المجاز من الرقابة وموافقة الداخلية ويتم دفع رسم معين وفقا لكل مسجد.

لكن صناع الفيلم فوجئوا بأن مدير مكتب وزير الأوقاف يرفض إنهاء الأوراق، ويؤكد أن التصوير في المساجد "مخالف للشريعة الإسلامية"، وحين سألوه إن كان هناك ما يراه مخالفا للشرع في السيناريو عامة أو المشاهد المصورة في المسجد تحديدا، أجاب بأنه قرار نهائي يسري على أي فيلم سينمائي، وأن المساجد ليست مكانا للتصوير في العموم.. وحاولوا مناقشته بأن المساجد هي بيوت الله، وأنهم لا ينوون ولا يوجد في النص ما يخالف الشريعة أو يسيء لقدسية مكان العبادة، وأن التصوير سيتم أثناء الليل بين صلاتي العشاء والفجر، وبالتالي فلن يكون هناك أي تعطيل للشعائر، كما أن المساجد ذات الأضرحة هي جزء من تراث شعبي يكاد يتجاوز الدين، ولا يحق لأحد منع الفنون من صياغة أعمال تتعرض لذلك. لكن الموظف أصر على الرفض بشكل قاطع، وعندها قرر أصحاب الفيلم الرحيل مطالبين بإعطائهم رفضا رسميا من قبل الوزارة يوضح كافة الأسباب التي قالها الموظف، فطلب منهم العودة في اليوم التالي لاستلام الرفض.

شاهد على الواقعة

سمع صناع الفيلم الكلام وعادوا في اليوم التالي، ليفاجأوا بوجود نائب برلماني تم تعريفه لهم على أنه من نواب حزب "الحرية والعدالة".. وأفاد مدير مكتب الوزير في حضور مدير أمن الوزارة بأن الوزير أكد رفضه مبدأ التصوير بشكل عام، وكان نائب الإخوان حاضرا وكأنه موجود ليتم إشهاده على الواقعة وموقف الوزارة، أو كأن له صفة رسمية مجهولة.. وأكد "قادة الغزوة" أن التصوير في دور العبادة مرفوض أيا كان محتواه، وقالوا إن الأفلام ليس مكانها المساجد. وحين أشار المبدعون إلى أن كثيرا من الأفلام عبر تاريخ السينما صورت في المساجد منذ "قنديل أم هاشم" مرورا بـ "أرض الخوف" وحتى "واحد من الناس"، كان الرد حاضرا: "ده كان قبل الثورة.. دلوقتي خلاص".. وقالوا إن الوزير رفض إعطاء أي رفض رسمي و لن يوقع أي ورقة في هذا الشأن.

وأصدرت جبهة الإبداع المصري بيانا قالت فيه إنها تلقت بانزعاج بالغ ودهشة قرار منع التصوير، وإن هذا الموقف يثير أسئلة عديدة حول موقف وزارة الأوقاف من فن السينما ومن الفنون عامة.. ولفت البيان إلى أن الفن كان دائماً حليفاً للأديان على مر التاريخ وشاهداً على عظمتها، واستشهد بمعالم الحضارة الإسلامية في الأندلس التي ذهبت بعد انهيار دولة الخلافة هناك، في حين بقيت النقوش والكتابات الإسلامية على جدران الحمرا وغرناطة شاهدة على ذلك العصر.. وأضاف أنه على مر التاريخ الحديث، تهافت العديد من المخرجين التسجيليين والروائيين على التصوير في مساجدنا الأثرية مؤرخين قيمتها الدينية والتاريخية في أعمال أدخلت تلك المساجد بيوت المصريين والعالم أجمع من خلال الوسيط البصري، مشيرا إلى أن الأزهر أصدر - منذ شهور قليلة - وثيقة تاريخية في دفاعها عن حرية الفنون وحرية الإبداع، وأن أحدا لا يمكن أن يزايد على الأزهر في تشريعه.

كما أصدر أعضاء لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة بيانا أعربوا فيه عن استنكارهم وقلقهم الشديد تجاه الإجراءات التعسفية ضد التصوير السينمائي في مصر، وقالوا إن المساجد الشامخة التي تعد من عيون الفن الإسلامي، ستُمنع من التصوير على أيدي كهنة جدد متطوعين وخارج نطاق مؤسسة الأزهر التي تعد المرجعية الدينية الوحيدة في هذا الشأن، في نوع من المزايدة الرخيصة المتملقة في غير موضعها لتيار التأسلم السياسي في مصر.

موقف مشرف للأزهر

والدليل على صحة موقف المبدعين في هذه القضية، حتى من الناحية الدينية، أن بعض علماء الأزهر الأجلاء انتصروا لحرية التعبير، وخالفوا "قادة الغزوة" من مسئولي وزارة الأوقاف في الرأي، حيث قال الدكتور محمد رأفت عثمان، عضو مجمع البحوث الإسلامية، إن تصوير المسلسلات والأفلام داخل المساجد حلال شرعا وجائز طالما أنها ليست مخلة أو مخالفة لتعاليم الإسلام والآداب العامة.. وأكد - في مداخلة تليفزيونية هاتفية - أن وزارة الأوقاف ارتكبت خطأ برفضها تصوير فيلم "فرش وغطا" داخل مسجد السيدة نفيسة انطلاقا من أن حرية الإبداع مكفولة وحث عليها الإسلام.

ومن ناحيته، قال الدكتور محمد مهنا، مستشار شيخ الأزهر - في مداخلة أخرى - إن حرية الإبداع حث عليها الإسلام ولا يجوز الاعتداء عليها، وإن منع تصوير الفيلم يعد اعتداء على حرية الإبداع، مشيرا إلى إن الإبداع ليس حراما وبالتالي فالتصوير داخل المساجد جائز شرعا طالما أن العمل متفق مع تعاليم الإسلام وآدابه العامة.

هناك ضوء إذن في نهاية النفق المظلم، لكن الأجواء العامة ضبابية وكئيبة ومحبطة، ومن السهل أن يلعب في ظلها المتأسلمون على وتر الدين لاستقطاب الناس وتحقيق أغراضهم السياسية والاقتصادية الضيقة تحت شعارات مرسلة ودعاوى مضللة، ولابد من تكاتف جميع القوى المدنية والوطنية الحرة للوقوف في وجه هذه الهجمة الرجعية الشرسة، لأن وطنا بلا حرية تعبير هو أمة بلا ضمير، وقوما بلا إبداع هم شعب بلا ذاكرة ولا وجدان.

No comments:

Post a Comment