السينما في عصر مبارك.. مشاهد وأحداث- ٦
"سهم" الأزمة المالية العالمية يصيب قلب السينما المصرية
** مرحلة الكساد بدأت عندما توقفت القنوات الفضائية عن شراء الأفلام وحق عرضها "الحصري"
** مشروعات الأفلام الضخمة تأجلت.. ثم تحولت إلى مسلسلات لم تنفذ حتى الآن
حلقات يكتبها:
أسامة عبد الفتاح
قبل وقوع الأزمة المالية العالمية في سبتمبر 2008، كان الأباطرة الذين يسيطرون على سوق الإنتاج والتوزيع السينمائي في مصر، يقسمون الأفلام إلي ثلاث فئات:(أ) و(ب) و(ج).. والفئة الأولي تضم أفلام النجوم السوبر، وكانوا وقتها بشكل أساسي: عادل إمام، وأحمد حلمي، وأحمد السقا، وبشكل احتياطي: محمد سعد، ومحمد هنيدي، وكريم عبد العزيز، وانضم إليهم قبيل اندلاع الأزمة أحمد مكي.. والفئة الثانية تضم أفلام النجوم التاليين في الترتيب من حيث الإيرادات، ومنهم: أحمد عز، ومصطفى شعبان، ورامز جلال، وأحمد رزق، ومحمد رجب.. أما الفئة الثالثة فتضم الفنانين الصاعدين والوجوه الجديدة والمطربين أو المذيعين الذين يخوضون تجربة السينما لأول مرة.
وكان أباطرة الإنتاج والتوزيع ـ في التكتلات الثلاثة الكبيرة العاملة في مصر ـ حريصين على تنفيذ أفلام الفئة (أ)، لأن ربحها ـ من وجهة نظرهم بالطبع ـ مضمون، وإيراداتها معروفة.. ولم تكن هناك مشكلة كبيرة في أفلام الفئة (ج)، لأن ميزانياتها محدودة للغاية، ولا تمثل عبئا، لا على من يمولها، ولا على من يشتريها، وأتحدث عن ميزانيات لا تتجاوز المليون ونصف المليون جنيه.. أما المشكلة الحقيقة فكانت تكمن في أفلام الفئة (ب)، التي كانت تضم غالبية نجوم السينما في ذلك الوقت، فنسبة المخاطرة فيها عالية لأن ميزانياتها كبيرة نسبيا، والأرباح المتوقعة من ورائها محدودة، وغير مضمونة.
وما حدث باختصار أن الأزمة المالية العالمية أثرت على الشركات الكبرى التي كانت تعلن في قنوات الأفلام الفضائية، والتي كانت تعتمد عليها هذه القنوات في إيراداتها.. وظهرت شدة الأزمة عندما بدأت السلاسل العالمية ـ المنتجة للمياه الغازية والوجبات السريعة وما إلى ذلك ـ تتأثر، فقد كانت المعلن الرئيسي في القنوات الفضائية.. وأدى تراجع إيرادات الإعلانات إلى تراجع القنوات عن شراء الأفلام، وبدء عصر الكساد الذي تعاني السينما المصرية من بعض آثاره حتى اليوم.
وكانت منطقة الخليج أكثر المناطق العربية تأثرا بالأزمة العالمية، نظرا لاستثمارها معظم أموالها في البنوك والهيئات الدولية التي تأثرت وانهار بعضها بسبب الأزمة، ونظرا لارتباطها بمعاملات ومصالح ـ ليس هنا مجال ذكرها - مع الدول الأكثر تضررا..
وبما أن أهم قنوات الأفلام الفضائية تنتمي إلى منطقة الخليج، فقد تأثرت بشدة بالأزمة، وبدأت تحد ـ ولا أريد أن أقول تتوقف ـ عن شراء الأفلام، حيث كان الشراء في أضيق الحدود ولم يكن يخرج عن أسماء نجوم بعينهم العائد من ورائهم مضمون، وهم بالطبع النجوم السوبر الذين لا يزيد عددهم على أصابع اليد الواحدة.
وأدى ذلك إلى ارتباك السوق السينمائية عندنا، وتعطل معظم مشروعات الأفلام، خاصة تلك التي تنتمي إلى الفئة (ب) من حيث ضخامة الإنتاج، والتي تضم معظم النجوم بعد استبعاد السوبر ستارز، الذين كانت أفلامهم تنفذ بأي طريقة لأن عائدها مضمون كما قلنا، وبعد استبعاد الوجوه الجديدة لأن أفلامهم ـ كما قلنا أيضا ـ لا تمثل عبئا ماليا سواء على المنتجين أو المشترين.
وأفلام الفئة (ب) تتكلف في المتوسط ستة أو سبعة ملايين جنيه، كانت القنوات الفضائية تدفع منها خمسة أو ستة ملايين مقابل العرض الحصري الأول وشراء النيجاتيف، بحيث تحصل هي على العائد إذا أرادت قنوات أخرى أن تعرض عرضا ثانيا.. ومعنى ذلك أن المنتج كان يغطي نحو80% من تكاليف الإنتاج قبل حتى أن يعرض الفيلم تجاريا، وكانت تتبقي 20% من السهل جدا ـ بل من المضمون ـ تغطيتها من شباك التذاكر ومن الإيرادات الأخرى.
أما توقف القنوات الفضائية عن الشراء، فكان معناه ببساطة أن يخاطر المنتج بـ100% من التكاليف، وأن يغطي هذه النسبة كلها من العرض التجاري المحلي، وهذا في عرف المنتجين مستحيل، أولا لأن رأس المال جبان، وثانيا لأنه من الصعب أن يثقوا في أن سلعتهم - أي نجوم الوسط - ستحقق كل هذا العائد من دون مساعدة صديق!
والغريب أنه في بدايات الأزمة، لم يكن أحد في الوسط السينمائي يريد أن يعترف بها أو حتى يناقشها، ولا أعرف لماذا.. كعادتنا في كل قضايانا وفي كل ما يمس حياتنا، كان الغموض يكتنف هذه القضية كأنها لغز أو طلسم، رغم أن المسألة بسيطة وتتعلق بالحساب والمنطق وليس بالغيبيات والميتافيزيقا.. والبعض قصرها على المحطات الفضائية التي تشتري الأفلام والتي تعاني من غياب المعلنين، وأصر على أن إيرادات دور العرض لن تتأثر لأن السينما ستظل أرخص وسيلة ترفيه بالنسبة للجمهور، وتوقع أن الأزمة ستنعكس فقط في تأخر دورة رأس المال مقارنة بالمعدلات التي اعتاد عليها المنتجون.
ولم يكن ذلك صحيحا، فقد أثرت الأزمة على الشركات الكبرى وليس على المحطات الفضائية فقط، بدليل توقف معظم مشروعات الأفلام الضخمة التي كان قد أعلن عنها في ذلك الوقت، ثم تأجيلها إلى أجل غير مسمى، ثم تحويلها إلى مسلسلات لم تنفذ بدورها حتى الآن، مثل "فرقة ناجي عطا الله" و"محمد علي" و"الطفل العملاق" وغيرها.
ويتذكر الكثيرون كيف غضب النجم يحيى الفخراني عندما تأجل تصوير فيلم "محمد علي"، الذي يعد حلما من أحلام عمره، وزاد غضبه عندما بدأت الشركة المنتجة تصوير فيلمها الآخر "بوبوس"، بطولة النجم عادل إمام، لكن ذلك لم يكن معناه أن إمام كان راضيا أو سعيدا، بل كان غاضبا هو الآخر، وقال في كل مكان إنه لأول مرة منذ عام 1963 يدخل فيلما من دون أن يقبض مليما واحدا، وقد وافق على ذلك مجاملة للشركة المنتجة التي قدرته كثيرا ولبت جميع مطالبه في أفلامه السابقة.
كان النجوم الذين لا يصورون غاضبين إذن، ويستولي عليهم القلق من المستقبل، والنجوم الذين يصورون لم يكونوا يشعرون بالأمان وهم يعملون، فلم يكونوا متأكدين من أنهم سيحصلون علي الأجور التي اتفقوا عليها..
وباختصار: طالت الأزمة الجميع، حتى الذين انتهوا من تصوير أفلامهم في وقت سابق، حيث كانوا يشكون تعطل مراحل تنفيذها النهائية وتأجيل خروجها إلى النور.
ولم يصدر اعتراف رسمي بالأزمة وخطورتها إلا في أواخر مارس 2009، أي بعد ستة أشهر كاملة من اندلاع الأزمة، حين أدلى السيناريست والمنتج فاروق صبري، نائب رئيس غرفة صناعة السينما وقتها، بتصريحات صحفية حول تأثير الأزمة المالية العالمية على صناعة السينما المصرية، قال فيها: إن الغرفة رصدت حركة الصناعة خلال الربع الأول من 2009 ـ مقارنة بنفس الفترة من العام السابق عليه ـ فوجدت أن السينما المصرية أنتجت خلال الشهور الثلاثة الأولى من 2009 ستة أفلام فقط، أي 50% فقط من إنتاج 2008.
وأضاف أن الغرفة بدأت تتخذ عدة خطوات لتعويض المنتجين وأصحاب دور العرض عن خسائرهم بعد أن استثمروا الملايين، لكنه لم يحدد وقتها سوى خطوة واحدة من هذه الخطوات، وهي زيادة عدد نسخ توزيع الأفلام الأجنبية من 5 إلى 8 نسخ.. والأفلام الأجنبية هي الأمريكية، أي أن تصورنا لحل المشكلة في ذلك الوقت لم يصب إلا في صالح تسويق الأفلام الأمريكية.. ثم أن هذه الخطوة كان من شأنها تعويض أصحاب دور العرض، ولم يتحرك أحد لتعويض المنتجين.
في الحلقة المقبلة:
وهم السينما المستقلة.. وأكذوبة التنبؤ بالثورة